المراقبة والمعاقبة
في كتاب (المراقبة والمعاقبة) لفوكو، يطرح طبيعة العقوبات القديمة التي كانت تسعى لردع المجتمع عن الوصول بأنفسهم إلى حالة الشخص الذي تمت إدانته، ولذا كانوا يتفننون في التعذيب لينسجوا حكاية في الناس.
ويذكر فوكو أن بعض المعتقلين كان يستمر تعذيبهم ١٠ أيام، كل يوم طريقة فيوم قطع أصابع، آخر سحب الأمعاء، هنا كانت المؤسسة التي تعاقب تتكئ على ذاكرة الناس، والقصص والأساطير التي ستحاك لتسجيل هذا الحدث، حدث آني، له بداية ونهاية، إن الرعب يكمن في إطالة مدة التعذيب، ليبقى في ذهن الناس أن هذا سيصلون إليه إن خالفوا السلطة، كان صنع الذاكرة يعتمد على العنف، إطالته، علنيته لكنه بقي مع كل ذلك في إطار الـ(محدود).
هذا بخلاف المؤسسة الحديثة فقد صارت تبني متحفًا تابعًا لها، له أسوار ضخمة، يزوره الناس، ويخرجون ليحكوا عما فيه: إنه يبقى غيبًا بالنسبة للناس في الخارج، كل سجين عبارة عن تحفة من مقتنيات النظام، والغموض=هو أبو الأسطورة، ولذا فإنه يصنع رهبة أشد من العذاب العلني القديم، يبقى ممكنًا ابتكار قصص أكثر من وقائع قطع الأطراف.
إن كيان السجن يسعى (لتأبيد) العقوبة، ومن هنا كان الأشد في منظومته: الحكم مدى الحياة، لا يريد للخلود أن ينقطع بإفناء مقتنياته! فيسعى إلى ترسيخها، كما أنه يسعى لترسيخ مبدأ المراقبة في نفسية المجتمع، فالسجين يشاهد أبراج المراقبة/الكاميرات: قد تكون لا تعمل-فارغة، أو أن الحارس نائم، لكنك لا ترى ما فيها، إنها تهندسك على مبدأ أنك مراقب، لتحول الخوف من السلطة إلى سجيّة، ويشاهد الناس في الخارج قلعة ضخمة تدعى السجن، شاخصة كل حين، يسمع أخبارها، لترسيخ فكرة المراقبة والعقوبة، إن المجتمع القديم مهما بلغت عقوباته فقد كانت (آنية) بخلاف المنظومات الحديثة التي سعت لمبدأ (الخلود في العذاب) والمراقبة المستمرة.
كان وصولي إلى هذا الكتاب ليس بالهين، قبل ما يزيد على عشر سنوات، في موقع مثالي لقراءته! في سجن جلبوع.