ترك الاستثناء مبدأ الإرجاء
كان السلف لا يزكّون أنفسهم، وكانوا يرون امتحان الناس: بهل أنت مؤمن؟ أنه بدعة، هذه الكلمات تقرأ ولا يفطن كثيرون لدلالتها، من دلالتها أنك ترجو أن تكون مؤمنًا إذ الإيمان ليس مجرد معادلة هندسة في ذهنك، ليس مجرد أرقام محفوظة، بل يشمل اليقين، والرضا، والتسليم، والمحبة، والرجاء والخشية ونحوها، فضلًا عن الأعمال، فضلًا عن خاتمتك، فكانوا إذا سألوهم: هل أنت مؤمن يقولون: إن شاء الله، أرجو.
هل أنت أفضل عند الله من فلان العاصي، أو من المتلبس ببدعة وهو مسلم، السنة خير من البدعة، والطاعة خير من المعصية، نعم، لكن السني لا يزكي نفسه في الإيمان، فهو بين الرجاء والخوف، فلا يتعامل مع الإيمان بأنه مجرد محفوظ، ولا يدرك نهايته، أليس قد جاء في الحديث: من ذا الذي يتألى عليّ؟ اعلم أني غفرت لفلان وأحبطتُ عملك! ومن هنا كان سفيان يقول عن المرجئة في الإيمان: هؤلاء يريدون أن يقولوا هم عند الله مؤمنون! ونحو ذلك فما يدريهم؟
رأيت لأحدهم منشورًا قبل مدة يقول فيه: لن تلحد متى قرأت في علم الكلام، أو سمعت لفلان! وأول سؤال بديهي: ما يدريك أنه لن يفعل، فهذا غيب، ودارت الأيام فإذا بالقائل نفسه يطلع متابعيه أنه قد ألحد، وهذا كان نقدي على عنوان لكتاب لابن عقيل الظاهري (لن تلحد) فهذا لا يعرفه إنسان، هو من الغيب، ومعتقد السني أن المرء بين الرجاء والخوف، لا أن المرء إن قرأ كتابًا جزم بأنه سيكون حتمًا على الإيمان.
ومن الإرجاء الخفي، ذلك الذي إن أزعجه أحد بنقد شيخ له، أو معظم عنده، بادر إلى القول بأنه يخشى على القائل من الضلال! وكأنه يلمح بأنه لا يخشى على نفسه، أو تراه يحث إخوانه ممن [على المنهج] بقوله لاينوا فلانًا حتى لا يضل، وكأنه ضمن نفسه ألا يضل وهو بين إخوانه، وبعض هؤلاء يحفظ من الآثار في ذم الإرجاء ما هو كثير، حتى إذا قُلبت صورة المسألة، واحتفظت بمضمونها وقع في غير ما يحفظه، ويردد آثارًا يشنّع بها في الجدال، لكن في سلوكه يكون أول واقع فيما نهت عنه تلك الآثار، والحفظ شيء، والفهم شيء، فضلًا عن التطبيق.