في الصناعة
يعيش العديد من منظري الأخلاق في حالة مثالية يفرضها بحثهم عليهم فيما يجب أن يكون، مرورًا بمباحث غاية في التجريد مثل بحث (الخير، العدل، الجمال…) وإن تفاعل بعضهم مع الواقع فينظرون إلى كل حالة على حدة، متجاهلين النسق العام الذي يشكل المنظومات الاجتماعية والسياسية.
نحن في مناطق لنا ماض اجتماعي لم يكن بقرار أفراد منه، أفرزته الحالة الفلاحية، والإقطاعية التي سادت لقرون في المنطقة، مثل غيرها من العالَم، ثم حدثت صدمة حداثة عند الاستعمار للعديد من المناطق.
الاستعمار الذي بدأ بالامتيازات الأجنبية وظهور سقف المجتمعات الفلاحية والإقطاعية في المواجهة، كانت شبه أرض قفر أمام المعدات الحديثة التي واجهتها، والتي لم تكن حربية فحسب، بل شاملة وركيزتها اقتصادية، كالقروض، وما تبعها من وصاية على الدول، مثلًا مصر احتلتها إنكلترا بعد إعلان إفلاسها عن سداد القروض التي تراكمت فوائدها.
في المجتمع القبلي جرى تفهم كثير من منظري الأخلاق، للحالة الواقعية التي تمنع عن تصور الكمال فيه، ولذا بقيت المجتمعات تلك تعمل بنظام مشترك إلى حد بعيد، وأخلاقيات مشتركة كذلك تتناسب مع سقف القبيلة، والإطار الإقطاعي العام.
وأصبح هناك مسلمة بأن المجتمع القديم لا يمتلك أدوات الوقوف في العالم الحديث كما ينبغي، ما دام يحمل نفس الأدوات الإنتاجية السابقة، وما حولها من تصورات سياسية، وأخلاقية، حتى ما تم استيراده من شعارات مثل الاشتراكية حينًا من الدهر لم يكن لها أن تنبت أقصى من اشتراكية فلاحية في التصورات النظرية، لا اشتراكية صناعية.
ما دامت الحلول المقدمة تفصل السياسي عن الاقتصادي، ولو عمليًا، وما دامت المطالب جزئية، ستكون في أقصى الأحوال التحولات جزئية ولن تخرج عن النتائج السابقة، ولذا لا بد من الدخول في العصر الصناعي الذي تخلفنا عنه لقرون.
هذا الدخول لا بد أن يصاحبه أعراض جانبية، كتلك التي كان يصدم بها منظرو الأخلاق في المجتمع القبلي الإقطاعي كل حين، لكل نظام اجتماعي وسياسي أعراضه الجانبية في الواقع، إن الرأسمال الصناعي، ليس منفصلًا عن كفاح قانوني وفكري وأخلاقي ليزاحم فيه المجتمع الإقطاعي، أو حتى الاستهلاكي القديم.
فالرأسمالية في صميمها صناعية، أما ما حول الصناعة من رأسمال تجاري ونحو ذلك فهو يفرز إثراء لأصحابه، لكن دون نتائج كبرى على صعيد السيادة، ولذا فالرأسمال الصناعي المقصود هو ذاك الوطني، الذي يقوم على اسثمار من أبناء البلد، وعمالة وطنية لا أجنبية في المصانع.
هذا القفز سيفرز تفتيتًا للقبيلة، وما ارتبطت به من إقطاع، سيعيد تشكيل المجتمع ما دام يتوسع في مختلف النواحي، ويحافظ على السيادة بما لا يقارن مع مجتمع أقصى ما فيه رأسمال تجاري، وقطاعات خدماتية وتسويقية لا صناعية، سيكون ذلك أرضية لتحولات قانونية، ومفرزًا لأحزاب سياسية تعبر عن مصالح الفئات الجديدة.