تنبؤات، لا دليل عليها…

كم مرة سمعت: هذا الحديث ضعيف، لكن شواهد الواقع تدل على قوته؟ هذا خطاب انتشر بين العديد من المشايخ، وهو غير دقيق، لأسباب أساسية، فعلم الحديث قام على أساس بيان أي الأحاديث تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي تلك التي يرجح أنه قالها، لم يقم علم الحديث لبيان أي مقولة يمكنها أن تنطبق على واقع معين، فهنا يوجد ثغرات في الاستدلال.

فالحديث بداية يبحث في ثبوته: بقطع النظر هل تحقق أم لا، هل يقاس عليه أم لا، أي إنه: يبحث في ثبوته بقطع النظر عن الفائدة العملية منه، ثم بعد ذلك يستدل به، أما أن يصبح ثبوته معلقًا على فائدته، فعلى هذا ما ثبتت فائدته يصح ثبوته، وهذا يعني إمكان نسبة أقوال العرافين متى اعتقد الناظر بثبوتها إلى الأنبياء وهذا غلط، هناك أقوال كثيرة صحيحة، الأقوال العلمية مثلًا، هل يمكن أن تنسبها إلى الرسول لأنها ثبتت علميًا؟ أو مسألة رياضية صحيحة، وهكذا فليس كل ما هو صحيح في نفسه، أو مطابق للواقع ينسب إلى النبي، ولا يرتفع حديث ضعيف لا يثبت وفق قواعد الحديث بحجة انطباقه على واقع.

بخصوص ما سمي بـ(الانطباق على الواقع) أو يصححه الواقع فهي تحتاج لفهمها كذلك إلى آليات رؤية ما يسمى بالواقع عند الناظر، فكم من رجل ضعيف الثقافة يقول لك رأيت الغمام على صورة صليب! أو نحو ذلك من القصص التي لا تجعله يرى الواقع بل يسقط مفاهيمه على ما يراه، فهذا يتبع نفسية وثقافة الناظر، وانحيازاته السياسية ومواقفة الإيدلوجية، ليس كل ما قال رجل هذا هو الواقع يكون كلامه صحيحًا، بقطع النظر عن المسألة الدينية، فالطبيب والعامي الجاهل بالطب ينظران إلى نفس الصورة، ولكن الطبيب يحدد ما لا يحدده المريض الذي قد يرى الواقع بخلاف الطبيب بناء على مؤهلاته أصلا.

أما بالنسبة لطرق أخرى في التنبؤ، مثل الحسابات العددية ونحو ذلك، وهي طريقة تخالف أصول التفسير التي استقلت عن أصول الفقه، ففي قواعد التفسير لا يمكن أن تطبق طريقة الأعداد ونحوها وتحسب أنك اجتهدت، فالاجتهاد هو بذل الوسع في النظر في الأدلة وهي الكتاب والسنة بطريق مخصوص! تحديدًا الطريق التي توجد في أصول الفقه، تبحث في الكلام هل هو عام أو خاص ونحو ذلك، أما تلك الطريقة فمبتكرة وغير صحيحة كذلك ولا يصح الاجتهاد بها بل نسبتها إلى الدين زور، وضلال، ولذا كان العلماء يؤكدون لو أن رجلًا اجتهد بغير الأصول وأصاب الحق، فهو موزور، لأنه تكلم بجهل بدون أهلية، حتى وإن أصاب في مسألة فقهية في النتيجة.

ماذا لو صدقت تلك النبوءات؟ هذا سؤال يقوله كثيرون، والجواب: لا شيء، لا يوجد أي قيمة معرفية لادعاء صدق نبوءة لحديث لا يثبت، أو لطريقة مبتكرة في فهم النصوص، على سبيل المثال: لو أن رجلًا قال بأنه نظر في القرآن بطريقة مخصوصة (وهي مبتكرة كما سبق) ثم قال لك بأنه توصل إلى نتيجة تزعم أنك ستموت غدًا، هناك احتمال قائم بأنك ستموت حقًا، لكن ماذا لو حصل؟ هل سيكون موتك دليلًا على أنه صدق في أن القرآن نفسه تنبأ بهذا فيك؟ حتمًا لا، هذا باطل ومن نسبه إليه وقتها يكون من الذين تقولوا على الله حتى لو تحقق، لأنه لا يوجد نص بهذا فيك، فقد كذب على الله بقوله إنه أخفاه في كتابه!

وفي صحيح البخاري حين ذكر حديث صلح الحديبية وفيه: أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوّف به”، هذا الحديث مهم في بيان أي ضلال يحدثه أولئك في تلك الآيات والأحاديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة بأنهم سيأتون البيت ويطوفون به، بهذه الصراحة والوضوح، لا يوجد أي حساب عددي أو غيره من الطرق المبتكرة يمكنها أن تكتشف متى ذلك تحديدًا بطرق مخصوصة، بل لا تحويها النصوص نفسها، ولذا لما قال له: فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال لا، بهذه السهولة والوضوح، نفي تحديد الوقت، كان يشمله النص الذي لم يحدد الوقت، فلو كان هناك أي إيماء عددي، لأمكن الاعتراض ولأمكن فتح أبواب ما سمي زورًا بالاجتهاد في معاني النصوص، نعم نحن حسبنا وظهر لنا هذا العام، نحن اجتهدنا، لكنها لما لم يحدد، وكان عمر قد فهم ذلك سارع بقوله: (لا) ثم كان ذلك في عام الفتح.

قد يقال: فما قولك في بعض الدراسات التي تعقدها مراكز بحثية في السياسة وغيرها مثلًا وتحدد أن من المرجح أن دولة ما أن تضعف في سنة كذا، أو تقوى في سنة كذا، فيقال: هذا من البحث الدنيوي، ولا بد منه، الإشكال أن ينسب هذا إلى الله، أو يرجع في ذلك لتعيينه إلى القرآن نفسه! لابد أن يرجع الدارس للواقع إلى الواقع نفسه ودراسته، فالأطباء على سبيل المثال يقدرون حياة مريض مثلًا وفق الإحداثيات العلمية التي يرونها أنه سيعيش سنة، أو ثلاثة شهور، وهذا منفصل تمامًا عن أي نبوءة دينية، لا أن يحددوا ذلك بعد الآيات، أو قسمة الأحاديث! ثم التقول على الله ما لم يقل، ودمتم بخير.