هل بشر الكتاب المقدّس بمحمد، حتى بمنطق لا ديني؟ (5)

فهل يعقل أن نصًا قبل مئات السنين يبشر بمحمد!؟ كما قال ذلك المنتسب إلى المسيحية بمنطق لا ديني، فيقال له حتى بمنطق لا ديني إن الذين أذاعوا هذه البشارات هم أصلًا اليهود الذين عاشوا في مقربة من مكة، في يثرب، مستندين على نصوص العهد القديم، وأن الذين كانوا يسمون ذلك المبعوث بمحمد هم أنفسهم وإنما كانت تعبيرًا بلسان عربي، وهي كلمة لها المعاني التي رأوها تتحقق في بشارات العهد القديم، فحتى لو كان الناظر ملحدًا، فسيرى بأن هؤلاء هم الذين شحنوا الثقافة العربية بالحديث عن محمد، ذلك الذي تبشر به نصوص العهد القديم، وأنهم كانوا يعقدون الخصومات مع العرب من الوثنيين عليه، وإنما كان خلافهم معه بشأن النسب، بأنه من نسل إسماعيل ويفترض بحسبهم أن يكون من نسل يعقوب.

وأن القرآن كان يحاجج في وسط هذه الثقافة، فمتى احتجوا بسليمان وداود وبناء المعبد، احتج عليهم بأول بيت وضع للناس، بأنه في مكة، ومتى احتجوا بإبراهيم فإسماعيل ابنه، ومتى قالوا هو عهده فينا أبدًا، قال لا ينال عهدي الظالمين، كما قال موسى في سفر التثنية، وكان هذا موجودًا بين علمائهم، لذا كان الفضول سيد موقفهم، ولذا أسلم عدد من أحبارهم مثل عبد الله بن سلام، وهكذا كانت المسألة تسير.

وبمنطق لا ديني، فإن نصوص العهد القديم هي الأقرب إلى العربية من حيث اللغة والثقافة، وأن المزيج اليوناني الذي ظهر في العهد الجديد، ثم في اللاهوت الكنسي، وقانون الإيمان ونحوها كانت الأبعد عن منطقة المسيح أصلًا، وكان الفلاسفة النصارى أكثر إخلاصًا لليونان منهم إلى المسيح، ولذا كانت بحوث أشهرهم في الفلسفات اليونانية، واعتناؤهم بتقريرات الدمج بين تلك الفلسفات وفق قانون كنسي محدد، رغم أنهم لم يأتوا بفلسفة مسيحية أصلًا كما قال هيجل، إنما كانوا تحشية يونانية، فكل هذا يجعل ما صوروه بعيدًا عن روح العهد القديم تمامًا.

فحتى بمنطق لا ديني فإن البشارات التي تضمنها العهد الديني كانت المنطقية تدفع إلى نبي ينطبق عليه ما ذكره موسى، مثل أنه لو كذب يموت (لو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين) وأنه لا يدعو إلا إلى إله واحد كالذي دعا إليه موسى، وأنه أزال الصور والتماثيل، وأنه بعث بالتوحيد الذي جاء به موسى، وكتلك التي في العهد القديم بأنه لا ينكسر حتى يتم له الأمر، وأنه يخرج الحق إلى الأمم، وأنه يفتح الأعين العمي ونحو ذلك، كان يهود المدينة يسلمون له بكل هذا لكنهم يرجعون إلى قضية النسب الذي لا ينبغي أن يخرج عنهم للعهد الذي سلموا بأنهم أضاعوه لذا أخرجوا من الأرض التي كانت لهم والمشروطة بتحقيق وصايا الرب، حتى بمنطق لا ديني فهذا يظهر لمَ آمن به عدد من أحبار اليهود، لقد كانوا يرونه نتيجة منطقية للتوراة التي بين إيديهم، وهم يرونه يطبق الشريعة التي ماتت لتعطيلهم إياها، ولذا جاء في الصحيح أنه قال لهم “اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه”.

أين هذا كله من دعوى بعث نبي يأتي الناس بإله لم يعرفه العهد القديم بتاتًا، بل ليضحي هو إله، وفي سر التجسد! ثم تصبح الدعوى بأن يؤمنوا بأنه ظفر به، وتذمر على ربه بأنه تركه، ثم مات، ثم قام، ثم قال لأتباعه بشروا الأمم، ليتكلموا بغير لغته، ولا يحفظون كلامه بلغته، ويدخلون عليه من المضامين ما لم يخطر له ببال! بأنه ابن الرب الوحيد، وكان معه من قديم، وغاب هذا عن كل العهد القديم! وبعدها يأتي الحديث عن المنطق! الذي هو أؤمن به لأنه مستحيل، أو بكيت فاعتقدت، كما هي الكلمات المشتهرة سواء من لاهوتيين، أو من الرومنتيكية النصرانية اللاهوتية!

لكن نظرية العرق استبدلت بالمركزية الأوروبية، فهو لا يقرأ عن منطقة (الشرق الأوسط وهي فكرة أوروبية بحد ذاتها) إلا من أوروبة، ويسقط من حساباته وجود أي عرب كانوا نصارى، أو يهودًا، فلا يوجد إلا المتكلم باليونانية فحسب، أولئك الذين أغرقوا العالم مدة طويلة بتخريجاتهم اللاهوتية كحاشية يونانية، ولا يوجد أدنى اهتمام أو توثيق لما حدث في وسط صحراء العرب أنفسهم، تلك المنطقة التي كانت أقرب ثقافيًا ودينيًا ولغويًا إلى حياة المسيح نفسه، لقد كانت المنطقية تدفع إلى الإسلام من العهد القديم، مهما آمن أو لم يؤمن بها الناظر، “فمن آمن وأصلح فأجره على الله”، ودمتم بخير.