هل بشر الكتاب المقدّس بمحمد، حتى بمنطق لا ديني؟ (4)

ولكن قد يقال: ولكن جاء في القرآن أن عيسى بن مريم قال: (ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فأين هذا في الإنجيل؟ فيقال الإنجيل الذي بين أيدي الناس اليوم، برواته الأربعة المعتمدين عند الكنيسة (متى، لوقا، يوحنا، مرقس) لا يتجاوز الـ 200 صفحة، علمًا أن جمهور ما في كل رواية، إعادة صياغة لما في غيرها من الأربعة، فهي نزر يسير من أخبار المسيح، ثم إن القرآن نسب هذا إلى قول المسيح نفسه، ولم يقل تجدونه في الإنجيل! بخلاف قوله (النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل) فهو هنا لم يتحدث عن اسم مخصوص بل عن صفات مخصوصة، مثل (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) أما ذاك فهو كالحديث في الاصطلاح الإسلامي، ولم ينقل الإنجيل كل أقوال المسيح، ففي أفضل حال أن هذا مسكوت عنه في الإنجيل الحالي.

وبالعودة إلى المسيح الذي صورته الكنيسة بالصيغة المعتمدة، لا ينطبق عليه شيء من العهد القديم، ويمكن لأي أحد أن يبحث عما يكتبه أتباع الكنائس فيما يقرب من الانطباق على وصف (ابن الله=بالمعنى الكنسي، الأقنوم، وسر التجسد) لن يجد أي شيء، سوى التكلف في لي بعض آيات العهد القديم، لمحاولة إكساب طرحهم شرعيته، إن الكنيسة كانت تقترب من اليونانية في كل شيء، وغمرها فلاسفة اليونان الوثنيون، كأفلاطون، وأرسطو، واعتنوا بأفلوطين كما فعل أوغسطين، وصارت الحجة العرقية التي كان يقدمها اليهود، منسوخة إلى المركزية الإغريقية في نسختها اليونانية المفلسفة، وبالتالي صار هؤلاء يشرحون ما هو بعيد عن ثقافتهم، ومعرفتهم، وهم إلى اليونانية أقرب منهم إلى الآرامية، والعبرية.

لقد كان اليهود والنصارى الأوائل الذين عاشوا بين العرب، فصحاء، ومنهم عرب أقحاح، ولذا فإن ترجماتهم ستكون بألفاظ أقرب إلى القرآن، ولذا كانوا يفهمون حجاجه لهم، بخلاف الذين اعتبروا أنفسهم لاحقًا امتدادًا لليونان، وأشبعوا تراثهم بالألفاظ اليونانية، حتى صار من معتقدهم ألفاظ جديدة تمامًا لم يدر بها المسيح نفسه كالأقنوم! لا لفظًا ولا معنى، فتحدثوا باسم المسيح بدل أن يسمعوه، وإن كلمة تنقلها الأناجيل على سبيل المثال بالآرامية: “إيلي إيلي لما شبقتني” انظر قربها للعبرية والعربية، في المعاني والصياغة، أين هي من اليونانية التي كتبت بها الأناجيل.

وقد اطلع العرب الأوائل على العديد من نسخ التوراة، ومنهم الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، فانظر كيف قدّم ترجمته على سبيل المثال لأحد النصوص: " قَالَ في التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا" [صحيح البخاري].

واليوم أي ترجمة تقدّم لهذا الموضع بالضبط؟ “هو ذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الارض وتنتظر الجزائر شريعته، هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحًا، أنا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك واحفظك واجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم، لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة” [إشعياء 42، 1-8].

فهي وإن اتفقت في جمهور المعنى، فانظر ألفاظها الوعرة، وتقطع سياقها، بخلاف الترجمة العربية الأولى التي قدمها عبد الله بن عمرو بن العاص، وكيفما كان، فهذا النص تحديدًا، كان متى قد جعله من بشارات العهد القديم على المسيح كما في روايته [12، 14-21] فأين هذا على رواية الكنيسة، وهو يقول: “لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض” وهو حسب كلامهم قد علّق على الصليب، حتى عاتب الله بقوله لماذا تركتني؟! تلك الكلمة التي جعلها جيجيك بوابة للإلحاد! بأن الله تخلى عن المسيح بزعمهم ولم يوف له بعهد! وهو الذي بقي أتباعه في اضطهاد حتى آواهم عرش بيزنطة بعد خلط ثقافتهم بالوثنية؟ وهو في النص يخرج الحق للأمم، وفي رواية الكنيسة أن المسيح بعد صلبه قال بشروا الأمم، ولم يبشر بنفسه أصلًا غيرهم من الأمم، ولا تم له ذلك، وهو في العهد القديم يتحدث عن الإله الواحد، لا ذاك الذي ينشر بزعم الكنيسة أنه ابن الله وهو أقنوم لله، وأن فيه سرَّ التجسد، وأن اللاهوت في الناسوت، فأي حق نشره في الأمم على ذا؟ وهو الذي يؤكد لتلك الأمم ما كانت عليه بصيغ أخرى في الله.