هل بشر الكتاب المقدّس بمحمد، حتى بمنطق لا ديني؟ (3)
كان اليهود يسكنون يثرب في مجاورة للأوس والخزرج، وكانوا يزورون مكة أحيانًا، وكان الاطلاع على التوراة في مكة موجودًا حتى عند بعض الأشخاص، على سبيل المثال ورقة بن نوفل، له قرابة بخديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اليهود يتحدثون عن نبي يخرج وله صفات الحسن، والكمال، ومن هنا جاء الاسم العربي: محمد، فهو كثير المحامد، والصفات الحسنة، هذا معنى الاسم، وهو وصف لذلك الذي سيبعث في آخر الزمان، ويخلص العالم مما فيه من شرك وأوثان، وقد كان العرب وثنيين، وفي القرآن جاء أنهم (كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) فكانوا يستنصرون به على مشركي العرب.
هذا كله كان ببشارات العهد القديم، بلسان اليهود الذين كانوا في حالة قبلية، ولهم لسان عربي قويم، فترجمتهم للكتاب كانت بألفاظ عربية فصيحة، ولذا لما وصفوا نبي آخر الزمان بأنه محمد أي كامل المحامد، وقد انتشر هذا الخبر بين العرب قبل محمد بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياض: “إنما تسمى بعض العرب محمدًا قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيًا سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمدًا فرجوا أن يكونوا هم، فسموا أبناءهم بذلك” ولذا جمع ابن حجر العسقلاني من تسمى بهذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا 15 رجلًا، دون تكرارا [فتح الباري: 6، ص556]، فهذا يظهر أن اليهود العرب هم من ترجموا الوصف بأنه كامل المحامد إلى العربية بأنه محمد، وأنهم هم الذين كانوا يعيشون حالة ترقّب لظهوره.
ثم إنه لما بعث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، ومثاله أن أهل الكتاب كانوا يسدلون أشعارهم وكان المشركون من قريش يفرقون رؤوسهم، فسدل ناصيته ثم فرق بعد [صحيح البخاري]، كان قد استقبل بيت المقدس [قبلة اليهود حينها] مدة، كان حال اليهود حينها قد اشتهر بينهم تعظيم الكهان، والتعامل بالسحر، ثم إنه لما كان يخالف الوثنيين، الذين ينص العهد القديم صراحة بأشد ما كان من صور الإدانة كان حال زعماء اليهود الذين ارتبطوا بعلاقات اقتصادية بمكة، ويرفضون هذا النبي، متمسكين بأنه يشترط أن يكون من نسل يعقوب، لا يمكن بنظرهم أن يكون من نسل إسماعيل، وهي الحجة نفسها التي تردد حتى الآن في الأوساط النصرانية حيث إنهم أبقوا على عقلية هؤلاء حية في حجاجهم، ولذا صاروا يقولون حين تدعوهم قريش للفصل في خصومتها مع محمد النبي: إن قومه أفضل منه: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا)!
كان أهم حجاج لليهود في القرآن في شأن تحويل القبلة إلى الكعبة، حيث كانت حججهم بأفضليتهم ونسلهم بأنهم خدام الرب، بخيمة عبادته، الهيكل بناه سليمان، ونحو ذلك، كانت الحجة القرآنية تقول لهم: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) أي علام تجعلون الأمر محصورًا في نسل يعقوب، إن كان لبناء معبد، فإن أول بيت إنما هو الذي وضع بمكة، إن الذي رفعه كان إبراهيم وإسماعيل (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) أي أفضلية حينها لكم وهو أول بيوت الله؟ وهكذا كانت المحاججة مستمرة في أن عهد الله لا يناله الظالمون، وأن إسماعيل كان على المعتقد الصحيح، وأن محمدًا الذي بشرتم أنتم به، إنما هو من نسل إسماعيل.
وهنا يظهر أن هناك حالة من الجحود والإنكار حين تطلب كلام من نشأوا على الثقافة اليونانية مثل أوغسطين، والأكويني، أو وثيقة رومانية مثلًا وكأنه لا يوجد يهود بين العرب في قبل البعثة أصلًا، ونصارى كنصارى نجران، وآل تغلب، وكأنه لا يوجد عرب أصلًا! إنها محاولة لإسقاط أمة كاملة وهم العرب، وأنت تتحدث عما حدث في أرضهم، وتناقله مؤرخوهم! تتغافل عن كل هذا وتريد الأخبار فحسب من بيزنطة التي كانت بعيدة عما يحدث في الصحراء العربية، إنها نزعة سبق لنيتشه أن قالها: ما النصراني إلا يهودي متنكر، إن سؤالًا مثل لماذا ينكر أوغسطين أو الأكويني النبي محمدًا، وهما البعيدان عن العربية أصلًا! وهما لا يعرفان أصل معنى هذه الكلمة!
إنه مجرد إعادة تكرار للحجة القائلة: لماذا جحد اليهود نبوة ابن مريم عليه السلام؟ وهم الذين درسوا جيّدًا التوراة؟ ماذا بخصوص النسب؟ هل سلموا أن ابن مريم من نسل يعقوب؟ فماذا قال اليهود حينها عن نسب المسيح نفسه وهو [ابن مريم] البتول التي لم تتزوج؟ وهي مسألة لم يتحدث العهد الجديد على سبيل المثال كيف لم يقيموا الحد على أمه وهم الذين رموها؟ ثم كيف إن المسيح على حسب العهد الجديد دافع عن زانية وقال: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر! ماذا سيكون ردهم لو لم يكن هناك سبب مبهر لهم حينها؟ سيعيّرونه بأمه، فكيف أسكتهم؟ هذا لا يعرف في العهد الجديد، إنما جاء في القرآن أنه نطق في المهد صبيًا، وهذا الذي جعل له رهبة في قلوبهم.