حول الإذن بالذِّكر…

حصلت ضجة مؤخرًا على موضوع الإذن بالذكر، وقد يرى بعض الناس أن المسألة جزئية وصغيرة جدًا، لا داعي لتحميلها ما لا تحتمل، لكن الإشكال في المضامين الأكبر التي قد تجر إليها هذه المسألة.

فالتراث القديم كما أنه حوى السنة، كذلك حوى البدع، فليس كل ما نقل عن مشايخ هو من الدين بل قد يكون من المبتكرات التي أنشأت نظامًا هرميًّا، على هيئة الإقطاعيات الكبرى، ومن ذلك العديد من الطرق التي تحدثت باسم الإله، فقد افترضت نظامًا يتجاوز أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة المسلمين كان يذكر الله على كل أحيانه، فلم تقنع بأن هذا يصلح للاقتداء به فافترضت أن المريد للشيخ ضعيف عن الذكر، فمن هو حتى يذكر اسم الله؟

افترض بعضهم أنه لا بد من تدريب معيّن حتى يذكر الله، وقسمت الناس إلى عوام وخواص، ثم خواص الخواص، فالعوام يذكرون لا إله إلا الله، فجاء هؤلاء يتحذلقون بالقول: هذا ذكر العامة، إنهم في طبقة أخرى فوق هؤلاء المسلمين، حيث إنك تذكر قبل اسم الله إلهًا! وهذا يأنف منه الخواص، فعندهم الذكر هو “الله، الله، الله” بدون أن يسبقه “لا إله”! فقلب العارف بنظرهم لا يستحضر أي شيء غير الله ونفي الإله قبله سقوط عن هذه المنزلة الخاصة!

ثم بعد هذه طبقة أخرى وصاروا يقولون “هو” فهو أبعد عن الرسوم، وهو أقرب إلى الأنفاس في إخراج الهواء، حتى في الكتابة وصل الأمر عند بعضهم مثل الحلاج أن يكتب (نقطة) كما في (الطواسين) رمزًا عن الله وكفى بها، لأن النقطة هي التي يتكون منها رسم الحرف، ثم الأحرف هي التي تكون اسم الله! وهكذا.

صار التوحيد سرًا، يجري التحدث عنه بالرموز وبضرب الأمثال، والإلغاز والتلميح، فالتوحيد سر بنظرهم، لا يمكن التعبير عنه بالأحرف ولا الكلمات، ثم ليدلوا عليه صاروا يلغزون به كما قال الحلّاج:

ثلاثة أحرف لا عجم فيها***ومعجومان وانقطع الكلام

هذا الكلام يقصد به “التوحيد” وهكذا صار التعبير عن التوحيد بمثل هذه الكلمات الملغزة تعبيرًا عن الأسرار، ويقولون: “قلوب الأحرار مقبرة الأسرار”، وقال العديد منهم لأتباعهم إنهم لا يقدرون على دعاء الله مباشرة، بل يدعون شيخهم، وبهذا ينقذون، فقلوبهم لا تقوى على دعاء الله مباشرة! الأمر شبيه بحال موسى حين قال: (رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني) ومثل هذا تجده في كتاب (روض الرياحين) لليافعي. فلا بد من إذن خاص في كل مرحلة، وطبقة، فالتوحيد سر، لا يقدر أحد على ولوجه حيث إنه لا يشرح بالكلمات، ويحتاج إلى تدريب شيخ يترفق بالمرء، ويضحي الواحد من هؤلاء العارفين لا يذكر الله أصلًا، بل يرمز إليه، بقصيدة في حب ليلى!

الطبقة العامية هي الناس الذين يتبعون هذا الشيخ في مملكته، التي يشيدها على طرق حاكت فلسفة أفلوطين، فالتقسيم الهرمي، يبدأ المرء منهم بلا إله إلا الله، ينتقل إلى اسم مفرد بعدد مخصوص، ثم الضمير، ثم سر لا يوصف ويرمز له بقصائد غزلية!

الساخر في الأمر أن الملحد قد يذكر اسم الله أكثر وهو يسعى إلى نفيه، فإن جاء إلى هؤلاء وأعلن إسلامه بمرتبة (العوام) ترقى ليضحي شيخًا (عارفًا) لا يذكر السر ولا يفشيه! بل يشير إليه، ويترنم “رأيت ربي بعين قلبي، فقلتُ من أنت قال أنت”!

وتضحي حجة فرعون متفهمة على هذا (قال آمنتم به قبل أن آذن لكم)! وهو الذي قال: (أخاف أن يبدّل دينكم) فبحجة الخوف على دينهم كان يشترط إذنه في الإيمان، بالمناسبة الحلّاج كان يعتبر فرعون من كبار العارفين، فلا عجب أن تجد ما يماثل طريقته في هؤلاء!

قد يقال لكنهم لم يقصدوا كل هذا، يقال: نعم، وليس العاقل حريصًا على الإدانة، لكن يمكن كذلك أنهم فعلوا، والتلويح قد يسبق التصريح، ومن يسمع يخل، والناس في زمن يقدرون فيه على البحث والتقصي، وهم في غنى عن تلك الممالك التي غيّبتهم قرونًا، في أوقات هم أحوج ما يكونون فيها إلى عقل وإيمان.