السياسة كسورٌ عشرية ليست أعدادًا صحيحة…
هناك من لا يكتفون بجهلهم، بل يسارعون إلى المناظرة عليه، ويتعاملون مع الوقائع بطرق مثالية، فالسياسة ليست كالأبحاث الأكاديمية الجافة، ففي القضايا العادلة يوجد من يناصرها وإن كان غير مرضي عنه في غيرها، وتجزئة المواقف مهم، ولذا اسمها سياسة!
ففي مكة أوائلَ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كان من يراعي المودة في القربى وهو غير مؤمن به، خيرًا من جاحد لا يؤمن به ولا يراعي قرابته، وخير منهما مؤمن يراعيها وينصره! فلا يعيّر مؤمن بوجود غير مؤمن دافع عنه لقرابته منه بحجة اشتراط تنقية الصفوف!
لا يوجد صف نقي تمامًا دون أخطاء في الواقع، ولكنها الموازنة العقلية والشرعية: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله) فعدو المصيب والمخطئ لا يعبأ بواحد منهما، ويرميهما عن قوس واحدة، ولكنه يزعم دومًا أن خلافه مع فئة واحدة وأنها ذريعة أفعاله، حتى إن تمكن من واحد، لم يبق على الآخر منهما!
فبعض الجهلة لعله لو كان في أوقات وقعات الإسلام الأولى لانحاز إلى أنصار أبي جهل غيرة منه-بزعمه-على الشهر الحرام وغفل عن كونه انحاز إلى إخراج المؤمنين من البيت الحرام! فهو كمن زعم حرصه على بناء قصر فأعان على هدم مصر!
في الوقعات التي يفاخر بها المسلمون اليوم ما هو مكرر في كل عصر: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) يوجد من تاجر بها (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا، ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا) يوجد من غلَّ، ومن خرج ليقال فيه شجاع، ومن تفاخر بغير حق (إذ أعجبتكم كثرتكم) كان يوجد من (يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم) كان يوجد قوم يلمزون النبي في الصدقات (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) كل هذا كان موجودًا وهي طبيعة البشر.
فهل حجب هذا وأمثاله كبار الصحابة عن رؤية الأمور كما هي عليه؟ هل احتجوا بوجود فئة مرائية لينحازوا إلى صف كامل خرج (بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله)؟
كان لبعض الناس رأي سياسي مخالف وهو في إطار الرأي مستوعب، لكنهم زادوا عليه بفرحتهم بإثبات رأيهم وهم يرون فري الجماجم، وصار علو أنصار هبل أهون شأنًا عندهم من مخالف لهم من أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (لو أطاعونا ما قتلوا) إن هؤلاء الذين يقلبون الموازين، بمثل هذه الحجج وأمثالها لم يأتوا بجديد عما ذكر وسطر في القرآن، وتجد واحدًا منهم أمَّ الناس به في شهر رمضان، أو صلى خلف من قرأ به قائمًا ثم حسب أنه يحسن صنعًا ببثه لجهله في أحسن الأحوال، وكما أن الصبر عند الصدمة الأولى فالفقه يظهر كذلك في السلوك والآراء عند الشدائد، ولا يزال قلب الموازين بالمرء حتى يصدق فيه: (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر).