توضيح واضحات (4)

كان الفلسطيني يعجب بالتعاطف العربي معه، فهو الذي نشأ على سماع أن قضيته هي القضية العربية الأولى، ثم يصطدم بالواقع نفسه، الذي عانى فيها من الاغتراب في المناطق التي هجر إليها، للتكلفة التي يحملها معه من قضيته، فخصمه أعلم العالَم أنه لا منطقة آمنة ينطلق منها الفلسطيني ضده، وبالتالي كان الإعجاب به محفوفًا بخوف التكلفة التي ينقلها معه إلى الأماكن المختلفة، كان نموذجًا لمثل شعبي يقول: (الله يسعده، وعني يبعده)، فوجوده يعني أنه ينقل شبح عدم الأمان لكل منطقة تأويه وتنصره، فضلًا عن اصطدامه بتعقيدات أكبر من التنوع الطائفي والانتمائي في المناطق التي احتوته وحضنته.

لقد دعمه العرب وغيرهم، وأدرك أنه كان يساندهم كذلك، فالدعم الناصري له مثلًا كان يعني مساندة مصر في حرب الاستنزاف بعد الهزيمة، وهكذا، كان كل دعم يتطلب منه شيئًا، وهذا يعني اصطفافه مع سياسة لزعيم، أو دولة، كانت فكرة دعمه كذلك تلقي بالحمولة كلها على كاهليه: صحيح أننا كنا هناك في 1948 وسميت المناطق تلك باسم وقعتنا، كذلك صحيح أننا كنا هناك في 1967 وسميت باسم تاريخها كذلك، لكن مع ذلك احمل همك بنفسك.

تتجلى هذه المعادلة في مصر التي استردت سيناء مع السادات، تحت دعاية مخالفة للقومية التي بدأت بها، تلك التي سمعها الفلسطينيون وطرب كثيرون منهم لها، لقد صارت الدعاية وطنية هذه المرة، خسرنا سيناء في 67، لكن ها نحن استرددنا أراضينا، والحمد لله، هكذا قيل لأجيال كاملة من المصريين، علمًا أن الحكاية لم تكن بدأت بهذه الصورة! فقد كانت مصر تقاتل باسم الوطن العربي أيام عبد الناصر، والأراضي التي ضاعت في 67 لم تكن سيناء فحسب، بل قطعة شاسعة من أرض فلسطين، مع هذا صار الخطاب مختلفًا بأننا هذه المرة ضاعت منا قطعة وأرجعناها، وأما ما ضاع بالهزيمة نفسها فلأهله المسؤولية عنه! كان الفلسطينيون قد اشتركوا في حرب 73، إلى جانب مصر على أنها معركة عربية، كما كانت معركتهم عربية.

لم تكن الحمولة عليه بالقليلة، فكل داعم يقول له أيدلوجيته وسياسته كذلك: مشكلتك ليست معنا بل مع النظام الفلاني، وآخر يقول له فلتشترك بالصراع القومي ثم ننطلق إلى بلدك، بالطبقي، آخر فلتشترك بالحل الإسلامي ثم إلى بلدك، وهكذا كان يدخل دوامة ما لها آخر، النظام العراقي كان ضد السوري والعكس، الليبي ضد الخليج، وهكذا كان لابد للفلسطيني أن يُشترط لقضيته ألف شرط ليقال له أهلا بك بيننا.

لم تكن تجربة مثالية، إنما حفت بالخطأ والصواب، بالفرح والألم، وهو المسار المتوقع لظروف غير عادية، وكما يقال: الظروف المتطرفة تنتج مواقف متطرفة، مواقف متنوعة بتنوع الألوان التي تزاحمت عليه، ففي أوائل حمله لهمّه كان له عشرات الفصائل والتوجهات، تجد من يخالفها سياسًا، ثم يقف من يخالفها لبرهة فيبدي إعجابه بمشرديها الذين تلطخت كوفياتهم بالدماء، وقد بقي في الواحد منهم أمل في محيطه العربي والإسلامي بأن ينطبق عليه مثل شعبي يردده: (لاقيني ولا تغديني)، أن يلقى من يدعو له، لا أن يردد على مسامعه دعاية المقيم ببيته، أو قل: بيت العرب والمسلمين أنفسهم!