صانع محتوى!
هذا التعريف بات يتكاثر هذه الأيام، مع طفرة تعدد القنوات على يوتيوب، ومدخولها النقدي الذي شكّل دعايته الكبرى شباب في مقتبل العمر، قد صاروا يركبون سيارات دون وظائف، بل لكونهم يجذبون عددًا هائلًا من المشاهدين.
من بين التنافس الطاحن على حصد المشاهدات برزت هنا وظيفة صانع المحتوى، تعددت القنوات الخاصة، وزاد الحرص على تعلم فنون الإخراج، والتقديم، والتصوير، ليخرج شاب لا يعرف أكثر المشاهدين ما مجال بحثه، ليتكلم في عشرات المواضيع، ويرفق معها مقاطع وشواهد تؤكد كلامه.
صحيح أن تلك القنوات شكَّلت للعديد من المواهب منفذًا لتجنب سراديب البيروقراطية التي تحكم الشاشات الرسمية، كما أنها أبرزت شخصيات بكفاءة كانت مجهولة للمتلقي ويقدَّر أنها ستكون وئيدة لو ترك الأمر للإعلام الرسمي وحظوظ ذلك المرء، لكنها أظهرت كذلك أعراضًا جانبية كثيرة.
فتاريخيًا كان الذي يسهل المعرفة، ويقدمها إلى العامة متخصصون عرفوا كيف يقرّبون بحوثهم بعبارات متداولة وأمثال مفهومة، ويعرضون بحوثهم بطريقة مختصرة، تحبب الناس إلى مجالات تخصص بعيدة عنهم، أو تعرفهم ببحوث ترفع من ثقافتهم العامة.
وحتى القنوات الرسمية، أو القطاع الخاص الذي استثمر في هذا المجال، فقد كانت تستعين بخبراء في مجالات متعددة، وكان يقوم بدور صانع المحتوى مقدِّم برامج، لا يسأل عن محتوى ما قدمه في قليل أو كثير، إنما هم أولئك الذين تبرز أسماؤهم في نهاية الحلقة، من كاتبي التقرير ومعديه، بل إن بعض القنوات كانت تجعل حلقاتها وسلاسلها من تقديم متخصص في فن معين.
أما مع صانع المحتوى، فيزحمه تعدد الموضوعات، ويدفعه لرفع دخله واستمراره تكثير الحلقات وتنوعها، مع ركوب موجات ترند المتصاعدة، وفي الختام يقول انظر المصادر تدلك على صحة كلامي!!
لكن مهلًا هذا الطرح قد يكون كارثيًا، فما معنى أن تتكلم في الفلسفة وأنت قد بدأت التعرف عليها حين أعددت الحلقة، وقرأت عشر مقالات، وراجعت خمسة كتب لو قيل بكمال اجتهاده في البحث، لكنه محكوم بمدة قصيرة للإعداد، تلك الكتب التي قد تكون توجهًا معينًا في الفلسفة أو عنها، وقد لا تكون متخصصة، وبحكم كونه صانع محتوى فقد اختار غالبًا ما في عنوانه [فلسفة] بقطع النظر عن تقييمها الذي يعجز عنه، علمًا أن أهم الكتب الفلسفية لا يوجد في عنوانها: فلسفة!
ما أن ينتهي من إعداد حلقته عن الفلسفة حتى يسمع بتريند عن حكم الموسيقى، فيقوم ببحث سريع على جوجل، فيعلم أن في المسألة خلافًا فيذكر الأقوال، ثم حلقة عن الاحتباس الحراري وهكذا!
هذا الصانع لا يزيد معرفة عن المتلقي الذي ينتظر المعلومة، والذي لو عرضت عليه الأقوال، لم تقرب إليه بعيدًا لفقدانه ملَكة الاختيار منها، وأهلية تضعييف قول وترجيح آخر! بل فقدان فهمها، الذي يمكنه من تسهيلها وضرب الأمثال عليها وتقريبها، وهو المعنى الحقيقي للمختص في مجال معين! فما بالك وهو ينقل الكلام بالمعنى، فهنا يعكس فهمه هو الذي قد يكون جهلًا مركبًا لما طالعه من مقالات محشوة بالاصطلاحات الفنية.
ولذا إن كان البرنامج الذي أعدته قناة فضائية عليه بعض الانتقادات، فإن صناع المحتوى غالبًا ما تعد حسناتهم في جانب أخطائهم، إلا من تكلم في مجال تخصصه ومعرفته، فيما يكثر النظر فيه، أما صانع المحتوى الذي يظهر أنه يتعرف معنا على مراجعه، فهو ممن يزيد الطين بلة!
هذا يختلف عن مقدم برنامج، خلفه متخصص تدفع له القناة ليعد تقريرًا، فأغلب أصحاب القنوات على يوتيوب لم يدخلوا هذا المجال وهم بمقدرتهم هذا، ثم إنه وإن بحث عمن يساعده في إعداد تقرير فإنه سيتوجه إلى طلبة الجامعات لا أساتذتها، والذين لم تثبت بعد كفاءتهم في مجالهم، وليس في مقدرة هذا الصانع تقييمهم!
ثم إنه وهو يفاوضهم ويضغط عليهم لتقليل نفقاته إنما يدفعهم إلى المسارعة بإعداد شيء يساوي الفتات الذي يرميه إليهم، إنه المقدّم والمستثمر في آن معًا، وفي الختام تخرج الحلقات المتنوعة من كل قُطرٍ أغنية، لا يعتبرها متخصص في لحن منها إلا نشازًا!