وقفات مع تشنجات أبي الفداء – الفطرة والغيب والقياس

بعد أن بان في المنشور السابق مدى اطلاع حسام على مذاهب الفلاسفة الذين ينتقدهم، وكيف أن جملة واحدة في تلك الفقرة لم تسلم من خطأ.. ننطلق إلى موقف ابن مسعود من الفطرة والغيب والقياس.

بدايةً، لنرَ ما هو الرد الصحيح -عند حسام- على من يزعم أنه لم يجد دليلا على وجود الله:

“أنت سفساط مكابر جاحد كذاب إن زعمت أنك لا تجد في نفسك علما فطريا سابقا بضرورة وجود رب بالغيب قد خلقك وخلق كل شيء، يملك أمرك وأمر كل شيء، فيجريه كله على ما يشاء وحده لا شريك له، فلا يحدث في خلقه شيء إلا بإرادته وحكمته، وأن ذلك الرب هو المستحق وحده لأن ينسب إليه النفع والضر وجعل الأسباب أسبابا والطبائع طبائع والسنن الكونية سننا، والاستقلال بتعليل كل شيء في هذا العالم، وهو المستحق لأن تخضع أنت نفسك نفسك ورقبتك لأمره ونهيه وإن رغمت أنفك، سبحان الله وتعالى عما يصفون! (…) هذا هو الحق الجلي الواضح الذي إن رددتموه وزعمتم أنه لا يظهر لكن فلا عقل لكم عندنا ولا كرامة! فلسنا نقبل الخضوع لمصادر تلقي المعارف الغيبية عندكم حتى نبين لكم هذا المعنى الظاهر الجلي، بل إنا نجل عقولنا وننزهها عن ذلك السفه الذي أنتم غارقون فيه! ثم عند الله الموعد والملتقى، وإنما ننظركم إلى أجل مسمى، وليس الموت منا ولا منكم ببعيد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.” [1].

نعم عزيزي القارئ، هذه حجته في الرد على الملحدين. لن يتوقف أبو الفداء هنا، بل سيكمل: “هؤلاء لا يريدون إيمانا” [2]. فانظر كيف خاض في النوايا، ربما ابتغى في ذلك إعذارا لنفسه عن هذا الجواب الذي قدمه.

على أي حال، السؤال هنا: ما الذي دعاه إلى هذا القول أصلا؟

الجواب: لأنه لا يرى حجية النظر والقياس في ما يسميه “الغيب”، وهو ما ينضح به الكتاب. ولا يكتفي بذلك، بل يرد أي قياس في هذا المبحث وإن كان صحيحا، كما صرح في النقل السابق وغيره، فيقول:

“وأما ما ولجوا به إلى علم الغيب المحض من أقيستهم ونظرياتهم فهو خرص وهذيان محض (من حيث مصدر التلقي)، سواء صنفوه كبحث في الطبيعيات أو في الإلهيات، ولا نقبل منه إلا ما وافق الحق من آحاد أقوالهم، مع بيان بطلان الأساس المنهجي الكلي الذي وصل بهم إليه (مصدر التلقي)! كأن نقبل منهم –مثلا– قولهم الذي انتهوا إليه في القرن العشرين الميلادي بأن العالم حادث بعد أن لم يكن وأنه كانت له بداية في الماضي، لأن هذا القول هو الحق قطعا، مع كوننا نرد عليهم الطريق الذي أسسوا عليه ذلك القول، وما عندهم من تفصيل فيه، ونوع القياس الطبيعي الذي به انتقلوا من القول بقدم العالم إلى القول بحدوثه!” [3].

يكمل فيقول:

“فلا ينبغي أن يخفى على دارسي تلك القضايا أن فتح باب القياس في الغيبيات يفسد الاعتقاد بالغيب وما فيه لا محالة، إفسادا كليا من مصادر التلقي نفسها، فينزل الخرافة والوهم منزلة المعرفة والعلم لا محالة، سواء كان موضوع ذلك القياس متعلقا بالإلهيات خاصة، أو بجميع ما جاء الرسل بالخبر عنه من أمر الغيب عامة، ولا يبقي للنبوات والرسالات من مدخل أو مولج إلى تلك الأبواب أصلا.” [4].

هو يمنع القياس في الإلهيات على وجه الخصوص، كما سبق، فيجعله قول أهل الإلحاد والزندقة [5] والربوبيين الدهريين [6].

إذًا، فهو يرى أن الاستدلال/القياس العقلي لا مكان له في “الغيب” (الذي يُعلم -عند أبي الفداء- بالشرع فقط) ولا في ما هو مركوز بـ “الفطرة” والبديهة (كالعلم بوجود الله).

فما هو قول ابن تيمية (الذي يكثر المؤلف من التمسح به) في هذه المسائل؟ يقول يوسف سمرين:

“إن الأدلة الشرعية ليست خصما للأدلة العقلية… كان [ابن تيمية] يطرد منهجه القائل بأن «العقليات المحضة إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحا لم تكن إلا حقا، لا تناقض شيئا مما قاله الرسول» [7]… «لو فرض وجود قياس يوافق مقتضى النص لم يمتنع الاستدلال به، فإن توارد الأدلة القوية والضعيفة على مدلول واحد ليس بممتنع، إنما القياس الباطل ما خالف مقتضى النص لا ما وافقه» [8].” [9].

وأما في جانب البديهة، فيعلم من قرأ «الرد على المنطقيين» أن “كون القضية بديهية أو نظرية ليست وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه، بل هو أمر نسبي إضافي بحسب حال علم الناس بها. فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له، ومن احتاج إلى نظر واستدلال بدليل كانت نظرية له” [10].

أما في موضوع الفطرة، فابن تيمية نفسه استخدم القياس العقلي في أمور رآها فطرية.. يكفي أن ترى قوله في مسألة العلو مثلا! بل انظر قوله في وجود الله وصفاته: “[إن] الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة. وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة، وتارة بالنظر” [11]. بهذا التقرير يرى المرء الفرق بين التحقيق والتشنج. ومع ذلك، فلن يتوقف ابن تيمية هنا.. بل سيستعمل قياس الأولى على المخلوقات ليثبت صفات الكمال لله.