حول الكتابة في تاريخ علم الكلام

كما تعرفون فأنا أعمل حاليًا على الكتابة في تاريخ علم الكلام، واحد من أعقد المواضيع وأصعبها وهذه الصعوبة تحفز الحماسة للمواصلة، فالتنازع الشديد، وحكاية المذاهب باللوازم أو حسب ما يفهمه الخصم، مع قلة المصادر [مقارنة بجسامة الموضوع]، تجعل الأمر أحيانًا أشبه بالبحث الجنائي حيث تمسح آلاف الأدلة لتقودك إلى شعرة متعلقة بالمسألة.

الكتب المتأخرة التي تحكي المقالات قد لا تكون دقيقة في مواضع عديدة، لذا كان لا بد من تقسيم العمل إلى أجزاء وإعطاء الكتب المتقدمة خلال القرون الأولى أهمية بالغة، كما أن احتواء كتب الحديث والرجال على نقولات نادرة يجعل لها أهمية قد تفوق بعض الكتب المصنفة في حكاية المقالات.

إن الكتابة في موضوع علم الكلام لا تعني تصوير مقالة قوم فحسب، بل التنبه لنشأتها ورصد تطورها وتوزعها على الفرق، فقد تتداخل المقالات، بحيث لا تكون الفرقة ذات توجه موحد، بل قد تتوزع على خصمين أحيانًا، قد تبني بعض الفرق مقالة على مقالة لخصمها ولكن بطريق المعارضة والمخالفة مع تسليم مفاصل مقالة خصومها الفكرية، والكتابة الجادة معنية برسم شجرة النمو والحركة ومسوغاتها التي أوصلت أصحابها إلى مقالات معينة بعد إنضاجها.

الكتابة بطريقة دقيقة تفيد الكاتب كأنه في مغامرة، يستكشف بقدر ما يكشف، وكم من مبحث كنت قد تجاهلته أحيانًا دفعت بعدها مضطرًا إلى نبشه والتنقيب فيه، وإعادة الافتراضات، ورسم خطوط الترجيحات، بحيث أجد الأدلة مخالفة لكلام حاكٍ أو شارح، أو سائد بحيث لا تكاد تظفر بغيره بعد عناء، قد تحمل النتائج معارضة ليست بالهينة ممن ألفوا ما تردد على أسماعهم، لكن البحث لا يبالي بالرأي العام بقدر الإخلاص للوقائع التي يحاول كشفها.