نعم جهمية فلم العجب؟ ردًا على شايع الوقيان

مولع هيدجر، لم يستوعب الربط بين طرحه وبين الجهمية، فعجب من هذا، وهو المتوقع من فاقدي المرونة الفلسفية، التي تستلزم الرؤية الشاملة، تلك التي تلمح الروابط، لا ذلك الانغلاق الذي لو درس التاريخ ظنه منفصلًا في الواقع عن الجغرافيا، أو يتوقف عند الكلمات دون تحصيل المعاني، بحيث لو بدّلت المترادفات حسب أنه صار يتكلم في موضوع آخر.

وبهذا كانت التحليلات الفلسفية تبحث فيما لم يصرح فيه أصحابه، ولم تتوقف عند تصريحاتهم، ولذا تجد كارل شميت حلل الأنساق اللاهوتية في التصورات السياسية في كتابه (اللاهوت السياسي)، كذلك كان لفويرباخ صولاته النقدية مع هيجل (نحو نقدية لفلسفة هيجل)، ليكشف اللاهوت الكامن في كتاباته، وتابعه كارل ماركس، كذلك نيتشه حين كان ناقدًا لكانط فقال: إنه مسيحي متنكر.

هنا يتميز العقل النقدي، في الكشف عما لم يصرح القائل باسمه، أو حتى لو أنكر أنه وقع فيه، بخلاف ترديد المصطلحات كالتعويذة، كما هو فعل قطاع من محبي الشهرة كفلاسفة، لكن كل حين يفضحهم انغلاق أفقهم!

كان هيدجر قد تعرض للنقد مرارًا للاهوت الكامن خلف كتاباته، وبأنه أعاد صياغة تأليه الوجود، من كتاب كثر لم يكونوا من أنصار ابن تيمية، أو لعلهم لم يسمعوا به، حتى تجد من يعتبر أن ما يقدمه هيدجر مجرد شعبذة كما في نقد ماريو بونخي عليه وهو الذي لم يتتلمذ على كتب التراث الإسلامي، بل دروس الفيزياء الحديثة حتى يرتاح ضمير شايع.

فحتمًا لو أحب شايع المراهنة على شعارات التقدمية لن تكون في مصلحته، وهو مولع برجل عاد إلى القرون الوسطى وما قبلها في أطروحاته، إلى تحليلاته للغات بائدة، اعتبرها مصدرًا أصيلًا ليصوغ فلسفته، ويحتفظ النقد الذي وجه إلى هيدجر-بأنه يغير المصطلحات ويعيد طرح المشكلات الاهوتية-بمكانته، فـ"كلامه عن وجود الموجودات يذكّر بالله" [1]، وقائل هذا فيلسوف ملحد لا علاقة له بتقليد التراث الديني كما يراهن شايع.

وما سبق مجرد فضلة لبيان أية مضايق يلجأ إليها شايع، ذلك الذي بجهد النفس يحاكي هيدجر، نعم، لم يقدم شايع سوى الجهمية، إلا أنه أحب التلاعب بالاصطلاحات: لم أتكلم إلا عن الوجود، ما دخلي باللاهوت! قال بأني اقتطعت بعض كلماته: كل اقتباس هو اقتطاع لجملة أو فقرة، أم إنك لما تقتبس تنسخ الكتاب كله؟ فيلسوف!

بخصوص الجهمية، ما قيل فيه لم يكن حتى مجرد تحليل لما يطرحه، بل هو ما صرح به في المسائل الإلهية، لعله نسي كلامه عن الإله وفق التصور الإسلامي بنظره؟ فقد تحدث عن السياق الإسلامي لتصور الله [2]، فقال: “تصور الله هو تصور عمومي مجرد خالٍ من التعين، والتحديد” [3]، ويطرح بنظره “حقيقة واضحة تنص على أن صلة الشيء والعالم بالإنسان ذات طابع عملي، وليس إيمانيًا… كما أوضح هيدجر ذلك”[4].

إنه يتحدث عن نفي الإيمانية، بين الإنسان والشيء، باعتبار ذلك حقيقة يتحاكم إليها، فلا مجال ليتهرب بقوله لم أتكلم عن اللاهوت! أنت تكلمت، وبينت أن صلة الشيء بالإنسان لا يمكن أن تكون إيمانية، بمعنى: لا يمكن أن يكون الإله شيئًا، لأنه كما أوضح جهم/هيدجر، العلاقة بين الإنسان والأشياء ليست إيمانية، لم يكن يحتاج سوى إلى حك رأسه ليخرج بالنتيجة الجهمية: الله ليس بشيء، أو الوجود ليس بشيء بعبارة متنكرة.

وبإعادة للصيغ الكلاسيكية الجهمية بعد تغيير القالب، كان سيحاكي هيدجر متسائلًا: هل لله ماهية ذاتية بوصفه تصورًا أعلى؟ إنه يصل إلى “حالة التصوّر الأعلى” ليجيب: “لا نعرف ما نثبته بل ما ننفيه، والسبب عائد إلى الطبيعة اللا متعينة التي يمتاز بها التصور الأعلى، فهو ليس شبيها بواقعة وحدثية وتعين الشيء” [5]، إنه إعادة صياغة لطرح الجهمية بنفي أن الله شيء، حتى لا يشبه واقعة أو حدثًا أو شيئًا سواه.

إنه يتكلم ليس بعيدًا عن الإلهيات كما يزعم، بل يتحدث فيها في الإله وتصوره، بل يزيد أنه يتحدث في السياق الإسلامي، وعن الإيمان، وعلاقة الإنسان بالشيء.


[1] دفاعًا عن المادية والتاريخ، صادق جلال العظم، ص195. [2] انظر: الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، شايع الوقيان، ص58. [3] الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، شايع الوقيان، ص59. [4] الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، شايع الوقيان، ص61. [5] الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، شايع الوقيان، ص60.