الجهمية الجديدة، ردًا على شايع الوقيان

مع التهويل في المصطلحات، وتتابعها، يحسب بعض الناس أن خلفها جبالًا من المعاني الجديدة، وما هي في الواقع إلا تكرار لما عُرف ونوقش مرارًا، كان مولَعُ هيدجر يردد تلك الكلمات التي اقتنصها من معجم هيدجر وكأنها فتح جديد، على أنها لم تكن سوى دروشة فلسفية، بمقالات لو حققت معانيها لم يكن فيها أكثر مما طرحه جهم بن صفوان (128هـ).

جهم بن صفوان الذي حفظت كتب المقالات مقالته في الله، كان يقول عن الله إنه: ليس شيئًا، حتى يخالف بين وجوده ووجود الأشياء، كان يرى أن الإله مصدر كل الأشياء حتى وصل به الحال إلى الجبرية، ومع دخول الترجمة واتحادها بمقالات الجهمية صار التعبير عن إله جهم بأنه ليس في مكان ولا زمان، وهذا جر عليهم ردودًا كثيرة من السلف، وغني عن القول إن كتابات ابن تيمية كانت مكثرة في الرد عليهم وبيان بطلان مقالاتهم، تلك التي لو صيغت وفق اصطلاحات حديثة لقيل إن مقالات الجهمية: مثالية.

بصيغة (معلمنة) سيجري استبدال الحديث عن الله الذي ليس شيئًا كما هو الحال عند جهم، بالحديث عن (الوجود) ولو جرى استبدال كلمة وجود في كتابات شايع ومصدرها قبله هيدجر، بتلك اللفظة لما خرج غير مذهب جهم، فما هو الوجود؟

يقول شايع: “هناك شيء خارج الزمان والمكان أي: الوجود ذاته” [1]، ذلك “الوجود هو أساس الموجودات” [2]، إنه “واجب لا ممكن” [2]، إن “الوجود ليس شيئًا ولكنه ما يمنح للشيء شيئيته” [3]، “الوجود مستقل عن الوعي” [3] كذلك “الوجود هو الفضاء الذي ينطوي فيه كل شيء” [4].

لو صيغت عقيدة الجهمية لما جاءت بأفضل من هذه التعبيرات، فعند جهم: الله ليس شيئًا، وهو أساس الموجودات، وهو واجب غير ممكن، وهو خارج الزمان والمكان، ومستقل عن الوعي.

إن شايعًا لم يصنع سوى أن استبدل كلمة بكلمة، ويحسب أنه قدّم شيئًا جديدًا بهذا التلاعب الاصطلاحي، مستبدلًا الحديث عن الإله بكلمة (الوجود) مع إعطائها كامل الصفات اللاهوتية اللازمة: واجب، أساس الأشياء إلخ، إنه لم يفعل إلا تحقيق كلمة فويرباخ فيه: الفلسفة الحديثة ما هي إلا لاهوت في قالب فلسفة!

وقد اختلفت الجهمية بعد جهم بن صفوان على أقسام، منها من قال بوحدة الوجود أي بمعنى العبارة التي قالها شايع: “ينطوي فيه كل شيء”، ومنهم من حاول تصحيح نفي الشيئية عنه بقوله: “هو شيء لا كالأشياء”، ومنهم من بقي على نفي أنه ليس شيئًا، ومن هنا كان يثبت خارج ذهنه عدمًا ويسميه إلهًا! ولذا قيل: نظّار الجهمية لا يعبدون أي شيء، وعبادهم يعبدون كل شيء!

وهذا الذي تنبه إليه هيدجر فقال: “إن الوجود غير موجود”، إن كمال [التنزيه=بعبارة كلاسيكية] ذلك ما كان سوى كمال في النفي حتى أضحى الوجود غير موجود، إن ذلك الوجود الذي جرى الحديث عنه لا وجود له في الخارج على التحقيق.

إلا أن شايعًا، أراد الانتصار لإثبات ذلك الوجود خارج الذهن فقال:

“هذا صحيح، إذا سلمنا أن الوجود موجود شيء ما، أي موجود ضمن الموجودات، ولكن الوجود موجود بمعنى آخر، إذا كان الوجود هو أساس الموجودات، وهو ما يجعلها موجودة، فإنه أيضًا موجود، لأنه أساس نفسه، وهو يبرهن لذلك على نفسه” [5].

إنه من فئة إثبات ذلك الوجود، أو ذلك الإله دون جعله شيئًا، إنه لا يسأل عنه بأين، وكيف، لا يشار إليه، لا يحس، ولا يجس، ولا يرى، لكنه موجود خارج الوعي.

ولكن ما الدليل على وجوده؟ يقول: نفسه، إنه يبرهن على نفسه بنفسه، كما هي العبارة [الكلاسيكية] التي يعتبرها شايع قديمة: “عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي” فما قام بشيء سوى إعادة صياغتها بكلمة وجود.

فلتبرهن للناس على وجود ذلك الوجود [بذاته] الذي لا يشار إليه، لا يرى، لا يحس، كيف عرفته؟ يبدأ شايع باستحضار معارفه الفلسفية، واللاهوتية العميقة، ليقول:

“إن الوجود بديهي وبيّن دونما حاجة إلى برهان” [6].

معلومة صغيرة، كون الشيء بديهيًا أو غير بديهي هذا يتعلق بالذات العارفة، إنه أمر ذاتي، والسؤال هنا عن ذلك [الوجود] خارج الذات، فقد يتصور المرء شيئًا ولا يكون موجودًا في الواقع، لا يقال لك أثبت وجود سوبرمان حقيقي فترد ذلك بديهي عندي، واضح جدًا!! وهو ما نقد على كوجيتو ديكارت، فالسؤال هو كيف تصل إلى إثبات ذلك اللا شيء، الذي تسميه الوجود؟

يستحضر قدراته الشعرية قائلًا:

“يقول المتنبي: وليس يصح في الأذهان شيء*** إذا احتاج النهار إلى دليل، وأقول بعد التعديل: وليس يصح في الأذهان شيء*** إذا احتاج الوجود إلى دليل” [7].

بحق؟!