ولابن تيمية صولات مع دراويش المتفلسفة، ردًا على شايع الوقيان
خلا بنفسه، وصار بإمكانه حينها أن يملأ فراغ خانة التعريف به، ألم يكن قد قرأ: “إنّ جوهر الحقيقة يكمن في الحرية”؟ ها هو الآن يكتب بحرية، بجوهر الحقيقة! على رغم أن فراغ التعريف به كان كافيًا لبيان سيرته الذاتية، “يظهر له نفسه” بعبارة هيدجر المولع به، لكنه آثر تجاهله ليملأه بلقب “الفيلسوف”، بأي حجة؟ إنه يقدر على ملئ أوراق بمحاكاة هزيلة لعبارات هيدجر: كتب مرة: “التقنية ليست تفكيرًا أو فكرًا بل تطبيقًا، إمساكًا باليد” [1]، وها هي النتيجة حين أمسك بيده تقنية، عرّف نفسه بالفيلسوف.
ذلك المتندّر بابن تيمية الذي وقف في وجه صولة التتر، أعجبه هيدجر الذي كان يشرح لجمهوره كيف لم يحقق القدماء العظمة التاريخية الفذة التي حققوها إلا عبر الخروج من حدودهم الجغرافية والصدام الخلاق مع الآسيويين الغرباء، في الوقت الذي كانت ألمانيا النازية تستعد لغزو الشرق والآسيويين [2]، أعجبته عباراته، وغموضه، وحديثه عن الوجود، ومن قَبل، كان هيدجر قد جرّب مفعول كلماته مع حنا آرنت، هامسًا لها برسالة: “يعتبر القرب هنا (الكينونة) في البعد الكبير عن الآخرين” [3].
لم يكن لكلمات هيدجر وتعقيداتها أن تحظى بالمفعول نفسه مع مفكرين أدركوا أنه إذا جرى حذف “هالة العمق، والسر، والالتباس المتعمد التي تحيط به صياغاته لما بقي لدينا من منهج عنده سوى العمل على إعادة تعريف المسائل الفلسفية، ومصطلحاتها ومفاهيمها إلخ بما يفرغها من محتوياتها الجديدة والمكتسبة تحت تأثير العلم الحديث، وتطوره لصالح إحياء تعريفاتها الكيفية القديمة ومعانيها القروسطية” [4] إلى ذلك الماضي السحيق، وكلمات قساوسته اللاهوتية التي كان هيدجر قد افتتح دراسته بها.
إن هؤلاء الذين اشتغلوا شيئًا من عمرهم في العلم لم يكن لتعقيد الكلمات، وحذلقاتها أن تفعل بهم المفعول نفسه مع مدمني الجمل الغامضة، ومحبي الخروج عن المألوف بترديدها، لم يكونوا كآرنت التي يتقرب إليها هيدجر، كتب الفيلسوف/الفيزيائي ماريو بونخي: “لا أستطيع القول: إن الوجودية فلسفة، ما دامت جمل هَيدجر الخاصة مثل “عوالم العالم” و"الزمان نضج الزمانية” و"جوهر الحقيقة هو الحرية"، هي جمل غامضة، ولا سبيل إلى فهمها… ويظل الأمر قائمًا حتى يكتشف الأطباء النفسيون هل هو جنون، أم بلاهة، أم شيء زائف" [5].
لقد تنبهوا إلى تلك الدروشة التي تلف تعاليمه، لقد قدّم نسقًا فلسفيًا “حل فيه الوجود المطلق المتميز عن الموجودات محل الله”[6]، حين يضحي الإله في هذا النسق هو “الظاهر-المختبئ في آن، المصدر الحقيقي لنفسه وللأشياء موجود، بل هو الوجود المطلق” [7]، لقد كانت تلك التعاليم لاهوتًا مذابًا في صيغة فلسفة حديثة، “تحاول الجمع في لاهوت واحد بين التنزيه المطلق من جهة، وبين الغنوصية والتصوفية من جهة ثانية” [8]. ومن هذا المنطلق، انطلق شايع في دروشته، وهو الذي كان يقول بأنه لا حاجة للعودة إلى الوراء، فرجع إلى أشد صور الدروشة ضربًا في القدم، ليكتب:
“في السياق الإسلامي، على سبيل المثال: نجد أن تصور الله هو تصوّر عمومي مجرد، خالٍ من التعيين والتحديد، ولا يمكن فهمه، أو التوصل إليه، إلا باقتراح تصورات أخرى أقل عمومية وهي مثلًا تصورات عن الصفات الإلهية” [9].
هذا مبلغ علم شايع، تصور الله-بنظره-في السياق الإسلامي عمومي مجرد خالٍ من التعيين والتحديد! صدى للاهوت هيدجر مسقطًا على الإسلام عن الوجود المطلق، الذي جعله هيدجر محل الإله اللاهوتي، المخالف للمعنى “الشائع لله، أي الله المشخَص الذي يصلي له الناس ويخاطبونه ويقدمون له طلبات وأدعية… إلخ” [10]
إن ما يقوله شايع هنا إنما هو تصور مثالي للإله منسوبًا إلى الإسلام، وهذا الذي قاله إنما مرده من بين المقالات إلى جهم بن صفوان [128هـ]، وبحق كانت الجهمية تدور حول الإله بالمعنى الذي تخيله شايع، ولذا رد عليهم كثير من السلف كعبيد الله القواريري بقوله: “ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث قوله: لا شخص أحب إليه مدحه من الله”، فقد كانت الجهمية تدور حول نفي التحديد، التعيين والتشخيص!
ورد عليهم علماء السلف، كأحمد، والدارمي، والبخاري، وغيرهم، وممن رد كذلك ابن تيمية، ذلك الذي يستغرب شايع من العودة إليه، وهو يردد كلام جهم بفهم أو بدونه! ولو قرئت ردود ابن تيمية عليهم اليوم لجاءت كأنها تعليق على ما يكتبه شايع وأضرابه، ومن قبله هيدجر في حديثه عن الوجود المطلق، يقول ابن تيمية: