عن العلمنة والدين وكانط
غالبًا ما يجري إعطاء المتدينين جرعات تطمينية عبر خطابهم بأن العلمنة بحث منفصل عن الدين، من باب اللغة الدوبلماسية الناعمة، أو تأليف القلوب، على أنها حديث عن شكل الدولة فقط، أو عن نمط للتفكير في البحوث الطبيعية ونحو ذلك.
على أن الواقع غير هذا، فالبشر يفكرون بطريقة متشابكة، ويحرصون بطبيعتهم على الاتساق، ولذا فقد سبق الحديث عن الأنظمة السياسية العلمانية [اللادينية] بحوث فلسفية تشكل أرضية لما يجري بناؤه لاحقًا على هذا.
من الأمثلة القريبة التي تطل بين فترة وأخرى هل يجوز الترحم على الكافر أو لا، في بادئ الرأي قد يقال: ما علاقة هذا بالعلمانية؟ فالمطلوب هو بحث نظام يجمع المجتمع في الدنيا ولا يعني العلمانية شيئًا وراء ذلك، فالمهم هو الوفاق بين المتدين وغير المتدين بما يضمن السلم الأهلي، ولا يعني العلمانية أي كارثة يعتقد طرف أنها ستحل بالآخر في عالم غير عالمنا.
لكن الأمر لا يجري بمثل هذه السذاجة، فلتشييد نظام علماني على أسس متماسكة كان لابد بداية من إعطاء مفهوم فلسفي للدين، وبالتالي بيان أسسه العقلية وحدوده، وفي هذا الإطار كانت محاولة كانط حين أخرج الله من البحث العقلي المحض، إنه أمر خارج عن العقل المحض فلا يمكن محاكمته بالعقل، وهذا يعني عدم إقامة خصومات على ما لا يقضي فيه العقل المحض.
كانت خطوة كانط سلاحًا ذو حدّين فمن جهة يحاول إنقاذ الدين من النقد كون النقد تحاكم إلى العقل، ومن جهة أخرى سحق مشروعية ضرورة الدين باعتباره صوابًا/حقًا كونه لا يقوم على أسس صلبة من العقل، ومن هنا تنازعه الفئتان، فئة من المتدينين يرون أنه يمنع عن دينهم النقد وأخرى من اللا دينيين يرون أنه اعترف بأن الدين غير عقلاني بل اختيار ذاتي لا يمكن أن يكون حقيقة تعمم.
مهما يكن من شيء، فإن كانط شكَّل نقطة فارقة في التوجه نحو المجتمع العلماني اللاديني، كنقطة يلتقي عليها كثير من المتدينين وغيرهم، فكرة أن الحقيقة الدينية لا يمكن للعقل أن يبت فيها، وأن عالم الدين لا يخضع لمفاهيمنا ولا لمحاكماتنا، وبالتالي كانت الحاجة لنظام يقضي العقل بصحته في التعامل إنه أساس فلسفي لفكرة النظام الذي من عالمنا بعقولنا أي اللاديني حسب المفهوم الكانطي.
كانط لم يتخيل ما سيبنى على أفكاره، ولا على معضلات الدولة اللادينية لاحقًا والتي برزت بشكل صارخ في الحرب العالمية الثانية، عصر انبعاث الإيدلوجيات والقوميات والصراعات الطبقية على أسس لا دينية، كان كانط يطمح إلى إرساء سلام عالمي بأفكاره، لم يتخيل أن تقوم أكبر حرب بشرية على أسس لا دينية.
بالعودة إلى الحديث عن الترحم على الكافر أو لا، وباقي النقاشات التي يحرص عليها أقوام بحجة التنوير، يظنون أن العلمنة الأوروبية كان يمكن أن تصل إلى ما وصلت إليه بنقاشات جزئية مثل تلك التي يقومون بها، والواقع أنها قامت على أوتاد فلسفية كبرى، لا بمثل الأطروحات الطفولية التي يقومون بها.
كان لكانط ميزة وهو يقدّم طرحه أنه سلّم أن عملية التأويل للنصوص الدينية بما يخدم التعايش الاجتماعي على أسس جديدة ليست بتاتًا تفسيرًا حقيقيًا للنصوص الدينية، إنما تخدم الهدف المقدّم فحسب، بخلاف أولئك الذين يزجون بأطروحاتهم المستوردة على أنها فهم ثاقب للنصوص الدينية، إنهم يفتقدون الأصالة الفكرية.