رأيت هذا المنشور لحاتم العوني، في ذكر صور التسامح الأول، أناس تختلف في عقائدها لكنها تتصادق وتتصافى كأنه لا يوجد خلافات بينهم، هذا من المنشورات الرومنسية، التي تصور كأن الأمر كان ليبرالية [إسلامية] وهذا عند التحقيق مخيب لآمال مقصد المنشور.
فلو تم اعتماد البحث المنهجي الأصولي فأنت لابد أن تجمع كل المواقف، لا أن تسلط الضوء على موقف، وتغض الطرف عن آخر، لوجود حالات صدام من شخصيات أعلى وأعلم وأشهر من المذكورين، لكني لا أطالب العوني بهذا الموقف الأصولي، فالرجل تخصصه الحديث فيفترض أن يكون أكثر دقة وهو ينقل الأقوال والشخصيات في مجال تخصصه.
فالعجب هو افتتاحه المنشور بما نقله عن ابن حزم دون تحقيق القول فيه، ولا تخطيئه، فمحارب بن دثار كما جاء في منشوره من أئمة أهل السنة كان صديقًا مخلصًا لعمران بن حطان الذي كان من الخوارج ومدح قاتل علي بن أبي طالب، وقال في القاتل: “أحسبه أوفى البرية عند الله ميزانًا”.
وهذا لا تحقيق فيه، فمحارب بن دثار كان من المرجئة الأولى، ما معنى هذا؟ معناه أن محاربًا كان يتوقف في إيمان علي بن أبي طالب، عنده احتمال أن يكون كافرًا أو مؤمنًا، لا يقطع بإيمان علي كما هو قول [أهل السنة]، فمحارب يجوّز ضمنيًا احتمال صحة قول الخوارج في علي، وفي ذلك يقول:
يعيب عَليَّ أقوامٌ شفاهًا بأن أرجي أبا حسنٍ عليًا وإرجائي أبا حسنٍ صوابٌ على القطرين برًا أو شقيًا
فهو يقول يعيب عليّ أناس قولي في إرجاء علي، أي تأخير حكمه إلى يوم القيامة، وهذا القول صواب على القولين، فإن كان مؤمنًا سيكون موقفي صحيحًا، وإن كان شقيًا فقولي صحيح كذلك، إذ لم أقل بواحد منهما في الدنيا! الأمر شبيه برهان باسكال الشهير.
فصداقته لخارجي مثل عمران بن حطان مفهومة، إذ إنه يقول قد يكون قول الخوارج صحيحًا يوم القيامة ويكون علي شقيًا، وقد تقلد محارب بن دثار قضاء الكوفة، تلك التي كان فيها إبراهيم النخعي، ولذا كان إبراهيم يحتد على المرجئة ويقول هم شر من الأزارقة! وهي فرقة شديدة من الخوارج.
لماذا؟ لأن المرجئة الأولى كانوا يتوقفون في إيمان علي من أول ما حدث قتال داخلي، بخلاف الخوارج الذين كانوا في جيش علي وبقوا على إثبات إيمانه وقت القتال ولم يخرجوا عليه إلا بعد واقعة التحكيم، وبسط الأمر في الكتاب القادم إن شاء الله عن تاريخ علم الكلام.
فهذا في أول مثال افتتح فيه منشوره فحسب!