في معنى الجمهور.
هل الجمهور يعني عدد الأنفار؟ قال الشافعي: “المذاهب لا تموت بموت أصحابها”، وهذا يعني مثلًا، أن الصحابة لو اختلفوا على 3 أقوال في مسألة، ثم ساد قول حتى لا يكاد يعرف غيره، لا يقال هذا القول غلب، فهناك مذهبان لا زالا قائمين مهما قل عدد أتباعهما، في فترة المأمون كان جمهور القضاة والمفتين من المذهب الحنفي، فهل يوجد رجل عاقل درس الفقه، يقول عن قول من مفردات أبي حنيفة مثلًا هو قول الجمهور، ولما يقال له لكن خالف فيه مالك والشافعي وأحمد، يرد بأنه قول الجمهور فترة المأمون؟ حتمًا لا، فأكثرية التبع لا تقوي قولًا ولا تجعله قول الجمهور.
ولذا أي دارس في الفقه لما يدرس مسألة، يقول مثلًا قال الجمهور، إذا اتفق 3 من الأئمة المشهورين في مسألة، لا يبحث عن عدد أتباع كل إمام في كل عصر، فهب أن أكثر الأمة من شرقها لغربها صاروا على مذهب رجل واحد في الفقه أبي حنيفة مثلًا، فلا يصير قوله قول الجمهور متى كان من مفرداته، ولا يترجح مذهبه لأن عددًا كبيرًا من الأذكياء اختاروه، ولا كل هذه الحجج العاميّة كما كانت تسمى في المحاججات الفقهية. هذا في مسائل الفروع الفقهية، فكيف بغيرها من العقائد؟
ألا ترى بأن جميع القضاة في دولة المأمون قالوا بأن القرآن مخلوق، وكانوا لا يقبلون الشهود حتى يقولوا بهذا وإلا ردوا شهادتهم، ومنهم كبار تلاميذ لمحمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة كبشر المريسي، فهل وجد واحد من العلماء قال هذا قول الجمهور؟ أو رجح به، أو اعتد به، أو قال بشر المريسي ذا مبدع في الفقه حتى بقي قوله معتمدًا في المذهب رغم تطاول العهود، ورغم انكسار دولته، فهل احتج واحد بمثل هذا لتصحيح مقالات المريسي؟
الفقه هو أعلى وصف يمكن أن يوصف به الفهم، بل هو أقصى الفهم، فكيف بمن يحتج بمثل هذه الحجج ثم يزعم أنه ينتسب إلى الفقه، قل ينتسب إلى صرخات شعبية، وتجييشات ومغالطات عاميّة، أما الفقه فهو بعيد عنه! فالمقالة الواحدة تبقى واحدة ولو انتسب إليها ألف، فهم أتباعها لا هي تتبعهم.