شَيبة وخَيبة (1)
عندما يشتعل رأس امرئ بالشَيب، تُأمِّل أن يكون تجاوز عهد العَيب، ترجو في هيئته الوقار، فكيف إذا كان يسارع بنطق العار؟ تبادرُ بطول الحِلم، فيراه أدعى للظلم، تتجاهله فيناديك، تمتنع فيُسميك، تتصبر فيتكبّر، تُمسكُ فيتجبّر، تكظم فيشتِم، أتلامُ بعدها إن تنطق فتَكلِم؟!
كتب مختار الطيباوي: “لأن نفايات التفكير مكانها ذيل الأشياء فسأخصص لإفلاس سمرين مقالًا” [1]، متحدثًا عن “ميوعة سمرين” [1]، “عندما يكون شخص ضعيفا إلى هذه الدرجة، معدما أخلاقيا وعلميا” [1]،وأنه بنظره لـ “تهافته لا ينتج عقله إلا مثل هذه النفايات” [1]، مما يجعله يرى “خوض من هب ودب في كذا مسائل بعيدة عن قدراتهم الاستيعابية وأدواتهم العقلية” [2]، في إطار ما يسميه “تبرير إلحاد المادية” [3].
فمن اختار هذا المَتن، لا يشفع فيه أحدٌ لحكمِ السِّن، وقد بلغنا النهي عن خضب الشيب بالسواد، وقد فعلتَ هذا بأعمالك، وليس الحديث عن رجل يتكلم في غير فنّه، بل هو فيمن ليس له فن! ألا لا صوتَ لتجاوزِ كلماتٍ حارّة، أمامَ من عُجنوا بالزَّعارّة، ولا مجال لمن فاخر بعيبه، أن يسترحمَ الناسَ بشيبه، فليس الحديث عن عقل ورأي، بل عن ردع خيبة تعاظمت، إنه حديث عن الانتهازية.
ويسبق حسابَك على ما انتابَك، تقدمة بذكر شيء من تاريخك، تكشف عن طريقة وسلوك، قبل الشروع في بيان حال المقالات التي سطرها حول كتاب [نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود].
الطيباوي لا تخصص له بأي معرفة، يقال: وصل إلى الثانوية، لا أعلم إن نجح فيها أو لا، وبعدها كانت رحلته، كانت طويلة كما يبدو، انهمك على سبيل المثال بإعداد رسالة بعنوان: (الدّر المفقود في كيفية الإهواء إلى السجود)، بلغت الرسالة كاملة (18 ورقة)، شاملة للتوقيع، وختم حقوق النشر، كتب في آخرها:
“هذا ما أمكننا جمعه على مدى عشر سنوات… مختار الأخضر طيباوي سنة 1992م، وانتهى منه سنة 2002”!
سنواته العشر أهّلته بنظره ليكتب: “أحاديث المنفردين يشترط فيها ألا تخالف الأحاديث المشهورة، أو الإجماع، أو عمل جمهور الصحابة]” [4]، أهذه قاعدة؟
كتب الشافعي في (الرسالة):
“عن ابن عمر قال: [كنا نُخَابِرُ، ولا نرى بذلك بأساً، حتى زعم رافع أن رسول الله نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك].
فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابَرة، ويراها حلالاً، ولم يتوسع، إذ أخبره واحد لا يتهمه عن رسول الله أنه نهى عنها: أن يُخَابِرَ بعد خَبَرِهِ، ولا يستعملَ رأيه مع ما جاء عن رسول الله، ولا يقولَ: ما عاب هذا علينا أحد، ونحن نعمل به إلى اليوم، وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي، لم يُوهِن الخبر عن النبي عليه السلام” [5].
لربما لم تتسع له سنواته العشر للوقوف على هذا، أو لم تتسع لها أوراقه التي لم تبلغ العشرين ليناقشها، لقد كان أمرًا مرهقًا، وهو يكتب بمعدل لا يبلغ ورقتين كلَّ سنة.
كانت رحلته الطويلة بعيدة عن الفلسفة والكلام، ولكنه كان يحاول أحيانًا مجاراة عناوين كتب الكلام، أليس لأبي حامد الغزالي رسالة بعنوان: “إلجام العوام عن علم الكلام”؟ فللطيباوي ما ينافسها، فقد كتب رسالة بعنوان قريب:
(إلجام العوام عن الخوض في حكم دخول الحمّام) [6].
قريب من الكلام، لكنه في الحمّام، بهذا يستنزف جهوده في مواضيعه الشيقة، والله يعلم كم كلفته هذه الجهود الجادّة من سنوات.
يتبع إن شاء الله…
[1] أسلمة المادية: النظرية التي ولدت فاشلة، حلقة 8. [2] أسلمة المادية: النظرية التي ولدت فاشلة، حلقة 7. [3] أسلمة المادية: النظرية التي ولدت فاشلة، حلقة 2. [4] الدّر المفقود في كيفية الإهواء إلى السجود، مختار الأخضر طيباوي، ص3. [5] الرسالة، الشافعي، ص445. [6] ترجمة مختصرة لمختار الطيباوي، إعداد: عبد القادر بوهلة، 16-04-2009.