شَيبة وخَيبة (٨) سريعًا:
1-قال: “لا يوجد مفهوم فلسفي للمادة مجرد عن المفهوم الفيزيائي” [1].
فيقال: بل لا يوجد مفهوم في العقل مجرد تمامًا عن أي أثر للمحسوسات، فالمعاني كلها أساس اكتسابها من الواقع القابل للحس، وهذا ما سجلته في الكتاب، فأي جديد قاله، فهل يوجد عاقل يعترض على كتاب يعيد صياغة ما فيه؟ ولذا كان ابن تيمية ينازع خصومه وفق هذا الانطلاق، أنتم كل مفاهيمكم مستمدة من المعين المشخص، في إطار الزمان والمكان، ولذا كان كانط عاقلًا حين عرف أن العقل المحض لا يمكنه أن يبحث في شيء خارج الزمان والمكان والتعيين وقابلية الحس، بهذا المعنى كانت المثالية تحسب أنها انفصلت عن المحسوسات ولكنها بقيت أسيرة لمدخلاتها، لذا ابن تيمية يثبت الاشتراك المعنوي، لكنه لا يحصره فيما يتساوى في أجزائه بل يوجد ما يتفاضل، ومن هنا جاء قياس الأولى في طرحه، أو ما يسمى بالألفاظ المشككة.
2-قال: “إذا قلنا: كل ما هو موجود في خارج عقلي ومستقلا عن تفكيري، لكن قولي هذا من داخل عقلي ووعيي، لا توجد مادة لها تعريف بدون وعيي وعقلي” [1]
هذا إعادة إنتاج للباركلية، [نسبة للقس جورج باركلي] الذي يختصر الوجود بقوله (هو ما يُدرَك)، والواقع أنه لعب على الألفاظ، فقوله لا يوجد مادة بدون تعريف بدون وعيي، ما دخل التعريف (هو أداة إنسانية)، بوجود المادة؟ المادة بشكلها المعين الخارجي [خارج الذهن] موجودة عرفتها أو لم تعرفها، وعيت بها أو لم تفعل، وهذه نتيجة متوقعة لمن ينتصر للمثالية، أن يصل إلى آخر نتائجه بالأنا العاري الوحيد، ليس هناك غيره في العالم، بحيث يجعل وجود العالم تابعًا لتعريفاته ووعيه!
3-قال: “تعريف سمرين للمادة بأنها “القابل للحس” مغالطة فهو لم يعرف المادة إنما أعطانا وصفا بدون حدود”[1].
هذا الاعتراض تابع لرواسب أرسطية في فهمه، وليس أصيلًا بالمناسبة فقد قدّمه بونخي في (العقل والمادة)، ومفاده أن المادية موقف أنطلوجي [نظرية الوجود]، والحس موقف إبستملوجي [نظرية المعرفة]، فذكر بونخي هذا في إطار التعريف بأنه إدخال نظرية المعرفة في نظرية الوجود، وهذا الاعتراض ضعيف، وابن تيمية نفسه كان له موقف في مسألة الحدود، خلاصتها انه يرى أن الحد يفيد في التمييز، لا معرفة الماهية ونحو ذلك مما كانت عليه مراهنة الأرسطيين، بالمختصر: التعريفات كلها أدوات إنسانية، فمهما كانت بلغة تتحدث عن الخارجي، فهي أساسًا من الإنسان نفسه، وبالتالي المطلوب من التعريف هو تمييز الشيء عن غيره، وما ذكرته من تعريف المادة حصل به تمييزها عن المثل الأفلاطونية أو ما يسميه الطيباوي الواقعية المثالية، وهو المطلوب، وإلا فأي تعريف يدخل فيه دور الذات البشرية مهما زعم من موضوعية، فهو يدور في إطار نحت الإنسان لتعريفاته للأشياء الخارجية، والطيباوي لا يتقيد بمواقف ابن تيمية، ويزعم المحاماة عنه، وأي قارئ لـ(الرد على المنطقيين) يعلم موقف ابن تيمية في هذه المسألة، وكان قد أشار إليها كذلك الشاطبي في (الموافقات).
4-ومن التخليطات: قوله: “المادية لا تنفي الجوانب الروحية والمثل العليا لا يعني الإقرار بها كقيم صحيحة فهي مجرد انتاج للذهن، لا حقيقة له في الواقع، والروحانية ليست النضال من أجل مثل عليا مثل: الحرية، والعدالة، والإنسانية الخ بل الروحانية عند المسلمين عبادة الله وحده والتزام أحكام شريعته” [2] فهذا الرجل لا يدري ما يقول، فليست هذه روحانية، لماذا؟ لأن الروحانية عند المسلمين مختلفة، فهذا يعني أنها ليست روحانية! هذا كمن يقول النصرانية ليست دينًا لأن الدين عند المسلمين مختلف! كونه يختلف لا يعني أنه ليس دينًا، كون الروحانية عند المسلمين شيء، لا ينفي أن عند غيرهم روحانية مختلفة عنهم. وهذا يدل على طبيعة قراءة الرجل للكتاب، قراءة غير ناضجة، ولا تستوعب.
يتبع إن شاء الله
[1] أسلمة المادية: النظرية التي ولِدت فاشلة (5). [2] أسلمة المادية: النظرية التي ولِدت فاشلة! (7)