نقد كتاب ”اختراق عقل“ (٤)
أما عن المبرر العقلي للأخلاق، فابن تيمية يقول:
”فان الإنسان من نفسه يجد من لذة العدل والصدق والعلم والإحسان والسرور بذلك ما لا يجده من الظلم والكذب والجهل… واللذة التي توجد بهذه لذة روحانية عقلية شريفة والإنسان كلما كمل عقله كانت هذه اللذة أحب إليه.
وإذا تصور معنى الحسن والقبح علم أن هذه المشهورات من أعظم اليقينيات فإنها ما اتفقت عليها الأمم لما علموه بالحس والعقل والتجربة بل اتفاق الناس على هذه أعظم من اتفاقهم على عامة ما يذكرونه“. [الرد على المنطقيين، ص٤٢٤].
تلك اللذة التي يجدها الإنسان بفعل العدل، عبر عنها بليخانوف —كما سبق— قائلا:
”وانطلاقا من هذه الملكة [الحس]؛ تتطور كل الملكات المسماة بالملكات الفكرية، وبعض الانطباعات و[الاحساسات] التي يتلقاها الانسان من أشياء تسره“.
فكيف يجعل صاحبنا من العدل والصدق والكرم أخلاقا لا تبرير عقلي لها، لينفي بكل سطحية اللذة العقلية والروحية بفِعل الحسن؟
يحصل إذا كان مرجعه في نقض الإلحاد قول روسو ”إن لم يكن رب، الفاجر وحده العاقل، والفاضل عبيط“. ويحصل لما يحرر مثاليته قائلا ”لولا وجود اليوم الآخر لكان الإلتزام بالأخلاق سفه وغباء“.
لكن العقل بمجرده عند ابن تيمية يقضي بحسن الشيء وقبحه [الرد على المنطقيين، ص٤٢٤]. والالتزام بما حسنه العقل المجرد عند ابن تيمية تبرره اللذة العقلية الواقعة عقب فعله. [الرد على المنطقيين، ص٤٣٢].
فضلا عن ذلك؛ لا يقر ابن تيمية بأن العقل يحسن ويقبح لمجرد شهرة قبح الشيء أو حسنه، بل يجعل العقل المجرد يقضي بذلك؛ ”فكيف تقول أن الحسن والوهم والعقل لا يعلم به حسن الحسن وقبح القبيح وما ذكرته من التذاذ الإنسان بالإيثار وتركه الطعام الشهي مراعاة الحشمة ونحو ذلك إنما هو لكونه يرى ذاك قبيحا وهذا جميلا ويلتذ بفعل الجميل لذة باطنة يحس بها.
فكيف يقال أن الحسن والقبيح لا ينال بشيء من قوى النفس وإنما يصدق به لمجرد الشهرة فقط من غير موجب حسي ولا وهمي ولا عقلي؟“[الرد على المنطقيين، ص٤٣٢].
فأين كلمات صاحب الاختراق من صرح ابن تيمية وتفصيله؟ إن الأخلاق كالعدل والصدق والكرم، يمكن أن يدركها العقل من دون الدين، وله مبرر للبقاء عليها؛ وهو حسه بلذة باطنة، عقلية، وهذا كله [إدراك الحسن، ووجود مبرر للتمسك به] لا يخص مجتمعا فيه دين أو فيه بقية دين كما كان في عهد الجاهلية، بل لا يخص حتى العاقل.
وإنما هو مما يتفق عليه كل الأمم، الملية، وغير الملية، بل وحتى الحيوان، ويذكر ابن تيمية مثالا: فإن كلب الصيد يكون جائعا، ويحمل الصيد إلى سيده من دون أكله، لأن في ذلك تحصيل لذة الامتثال لأمر السيد، وفي عكسه تحصيل ألم بعدم الامتثال، وكل هذا صادر عن توافق كل الحيوان على تقبيح القبيح وتحسين الحسن، فهذا لا يختص بالعاقل فحسب، وإنما يتفق فيه مع غيره، والمستقر عند سائر الحيوان أن اللذات الباطنة مستعلية على اللذات الحسية.
ويحكي ابن تيمية عن الفرق بين الحسن والقبيح، فيقول: ”وهذا الفرق معلوم بـالحس والعقل والشرع، مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم، بل هذا موجود في جميع المخلوقات“ [الاحتجاج بالقدر، ابن تيمية، ص١١].
فمن أين خرجت فكرة أنه لا أخلاق البتة من غير دين، وأنه لا مبرر لحسن الخلق قبل ورود الرسالة والدين؟ إنها خرجت من رحم التراث المسيحي النافي للتحسين والتقبيح العقليين. لا من عقيدة أهل السنة، ولا من تراث ابن تيمية.
تنبيه؛ وأنت تسير في رحلتك السطحية لاختراق الإلحاد، لا تخترقه بما يناقض العقيدة التي تدعي نصرتها، اخترق معلنًا عن مراجعك المسيحية/المثالية، يكن أليق.