كلمة في حق فاضل ..
محمد صالح العثيمين ، ذلك الفقيه ، الأصولي ، النحوي ، لا أبالغ إن قلت لم أعرف عالماً معاصراً له هيبة العلماء مثله ، لم أدركه ، ولو أدركته لسعيت لزيارته ، والاستفادة منه ، سمعته سماعاً ، وقرأت له قراءة ، وعند قراءتي لأي كتاب فقهي ، أكاد أجد بين حروفه نبرة صوت العثيمين ، يعلم جاهلاً ، ويفيد سائلاً .. قبل أن أعرفه - ولم يحلني إليه أحد أعرفه ، إنما دفعني إلى معرفته كتاب جر إليه كتاب وهكذا - كنت أقرأ لبعض من أسمع مدح الناس له ، فأجد فيه نقصاً في الإفادة ، يذكر مصادره المهولة ، دون أدلته ، ولا وجه استدلالاته ، بل تجده يقول قال فلان هذا حرام ، وآخر مباح ، ونختار الوسط ! مكروه ، فلا تدري ماذا سيصنع لو اختلفوا في مسألة على خمسة أقول ، فكيف وهناك من المسائل ما يفوق الخلاف فيها عشرين قولاً ويزيد . كنت أستثقل الأمر ، فأقول في نفسي : وكأن الكاتب حريص على أن لا يعلمك صنعته !، إنك مجبر على ذكره هو لا معرفة استدلاله ، إنك تعود إليه دوماً وحتماً ، ثم فرق بين بيان الحكم وبين بيان العلم لطالبه ! ، فماذا أصنع وقد شغفت حباً بطلب العلوم الشرعية ، ثم عثرت على كتاب يشرح الواسطية ، واقدروا لذلك الحدث سنه ، وهو يقلب صفحات هذا الكتاب ، ويلتهمه كما يزدرد جائعٌ طعاماً . ثم عثرت على كتاب في الفقه ، سماه جامعه (الفقه على المذاهب الأربعة) ، وبدأت بقراءته بنهم ، فإذا هو مقطع تقطيعاً ، لا تكاد تتابع باباً ، حتى ينقطع الحديث وينتقل إلى غيره ، فبحثت في الحواشي ، فوجدت أنه مستل من دروس صوتية للعثيمين ! ، فطرت فرحاً بأن له دروساً صوتية ، ولم أكن أعلم بها ، ولا دلني عليها مخبر ، فمن أين أحضرها ، والمرء هنا يجهد ليعثر على كتابٍ للعثيمين ، فكيف بدروس صوتية ، حتى علمت بوجود محل فيه شبكة إنترنت ، وكانت في بداية الظهور ، مخصصة لطلاب الجامعة ، ودخلته ولا تجد فيه من يعينك على كيفية استعماله ، ثم ظفرت بعد جهد ببعض شروحه ، وبدأت أستمع إليه يدرّس الأجرومية والألفية ، وزاد المستقنع ، أحمّل الدرس والدرسين وكان وقتها تمضي الساعة وأنت تقوم بإنزال مادة صغيرة ، ثم تنقلها ، وتكررت زياراتي وأنا أحمّل كل مرة درساً أو أكثر ، وبدأت أدمن سماعه ، وقد أتسمر لساعات طوال ، أسابق الفجر في سماع دروسه ، فلا أفطن إلا وقد جاء وقت المدرسة ، ثم أعود متلهفاً لسماعه إلى البيت فلا يفصلني عنه إلا الصلاة ، وما أقيم به أودي . ولم أعرف سلفياً وقتها عن قرب ، ولا ما يميزهم عن غيرهم ، ولا فهمت من العثيمين أنه يدعو لانتماء لحزب ، أو نصرة طائفة تعصباً لا عن أدلة ، ولا فهمت أنه زهّد بفقه الأئمة الأربعة ، بل ما كان إلا معظمّاً للسلف ، ملتمساً العذر لمخالف في مسائل ، يدفع إلى الانتفاع من كتبهم ، والتشبع من علومهم ، ولما التقيت بعد ذلك برجل قال إنه سلفي ، فإذا به يتشدد في مسائل الخلاف فيها شهير ، ويزهد في الفقه علمت أنه أجنبي عن العثيمين ، فما يقول هذا من سمع له شيئاً ، فكيف بأحدهم اليوم يعمم صورة هذا الشاب ، ويقزم أمر ذلك العلم ، في غمرة نقده للسلفية . ودارت الأيام ، وكبرت ، وقرأت أكثر ولم أتكاسل عن القراءة رغم امتناع السماع لذلك الفاضل ، فقد حجزني السجن عن سماعه لسنوات ، ثم عدت ودخلت كلية الدعوة وأصول الدين ، وتخصصت في مجال الفقه ، مع شدة نهمي بالفقه وكتبه وعلومه ، ومع كثرة من قابلتهم ممن يشار إليهم بالبنان ، وكم من معظّم في عين الصغير يتصاغر شأنه حين يكبر ، وكم من خبر صدّقه طفل كذّبه في بلوغه ، إلا أنني لما أستمع إلى درس للعثيمين بعد هذا الحين أتصاغر عارفاً بحقه وفضله وقدره ، مدركاً جهلي ، لا فضيلة في هذا تلفني بل هو تحقيق للأمر على وجهه ، فرحمه الله من معلّم ، وجزاه الله خيراً على ما تفضل به علينا ، رغم بعد الشقة ، وعدم إدراكه ، إلا أن من حسنات المرء علماً ينتفع به بعد موته . ثم تجد بعدها من يتشبع بما لم يعط ، يقيم نفسه حكماً يقيّم العثيمين فهو عنده وسط في الطلب ، له اطلاع على روضة الناظر لابن قدامة ، وله مشاركة في الفقه ! ، وعلومه قد تجاوزها الزمن حد الاستهلاك المكرر ، فينتظر ما يدفعه رحم الزمان فيما بعد ، وعند مطالعتك لآرائه لا تجدها إلا شذرات مقطعة ، علاقة النتيجة عنده بما سبقها من تسلسل ، كعلاقة فاقت اقتران العاديات في نظر الأشعري ، هي من قبيل المصادفات ، بل المفاجآت ، فأضحى الصدر في (فلسفتنا) نموذجاً للعبقرية الفذة عنده ، وما كتابه ذلك إلا أضحوكة بين النظريات ، وهو مجرد بناء فوقي لخرافات تاريخ الظهور وما بعد الظهور لسميه الصدر الآخر ، وما يسحر به المعممون عقول الصبيان ، فذلك عبقري ، وفاضلنا يجري تقييمه بما اقتصه المتشبع زوراً من هنا وهناك . مودتي