قرأت ورقة بعنوان «بطلان تفسير سمرين لطبيعة الوعي عند شيخ الإسلام» لصاحبها وهي ملحقة بما كتبه في «التعليق الودود» الذي سبق التعليق عليه. في هذه الورقة يعزف الناقد المعزوفة القديمة: هناك فرق بين الإثبات الفطري والإتجاه المادي (كأن خصومه لم يثبتوا هذه التفرقة وكأني لم أقل أن الفطرة ليست بديلا عن التفلسف)، وأن المادة هي الوجود الموضوعي بلا أي ضابط، وأن صاحب كتاب «نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود» يريد التقرب إلى المادية الجدلية (كأن خصمه لم ينتقد الديالكتيك في كتابه، وكأن الخط العام ليس فيه إلا أتباع ماركس).

يذكر الناقد في تعليقه موطنين أخطأ خصمه فيهما: ١. كيفية حصول الوعي. ٢. وجود احساسات لا تقوم بالجسد.

=== قبل أن نبدأ في التعليق هناك نقطة وجب التنبيه عليها: تعلق التعقل بالقلب واستقلال الروح عن الجسد ليسا منافيين للمادية كما يحاول الناقد تصويرهما. خذ رواد المذهب الذري الإغريقي مثلا، فهم يقولون أن الروح هي ذرات خاصة من مادة شبه نارية، وتعقلها متعلق بالقلب لا الدماغ، وهذا كله لم يمنع من تصنيفهم على أنهم ماديون! كما أن المادية الحديثة والمعاصرة تقول بأن العقل وظيفة الدماغ، فهذا القول ليس حكرا على المادية الجدلية. فالرجل، كعادته، ليس محررا لموضع النزاع بين المادية وخصومها، ويريد أن يتشبث بأي خلاف داخلي لينزع عن فلسفة ابن تيمية توجهها المادي.

===

الموطن الأول: يرمي الناقد خصمه بعدم الأمانة في النقل، ففي هذا الموطن يذهب إلى أن: ١. العقل قائم بالنفس لا بالجسد ٢. العقل متعلق بالقلب لا بمجرد الدماغ

أما كون العقل قائم بالنفس فهو مسلم، غير أن هذا يكون عند انفصالها عن الجسد، الأمر سيختلف عند حلول النفس في الجسد؛ فالروح شرط للحياة: • “الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة” [المجلد التاسع من مجموع الفتاوى]. والحياة المقصودة هنا هي الحياة الحيوانية التي تختص بالوعي والحركة الإرادية: • “الحياة نوعان: حياة الحيوان وحياة النبات، فحياة الحيوان خاصتها الحس والحركة الإرادية وحياة النبات خاصتها النمو والاغتذاء” [المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى]. إذًا، فالروح عند اتصالها بالجسد تكون شرطا للوعي والإرادة لا علة تامة لها كما لو كانت منفصلة، إذ أنه لا بد أن: • “يحصل لكل منهما من التغير والاستحالة ما يوجب الاتحاد، وأن يكون المركب المتحد المختلط المركب منهما شيئا ثالثا ليس هو أحدهما فقط، ولا مجموع كل منهما على حاله.” [الجزء الثاني من الجواب الصحيح]. • “فالبدن إذا كانت فيه النفس تتغير صفاته وأحكامه وتختلف أحواله باجتماعها وافتراقها والنفس إذا كانت في البدن تختلف صفاتها وأحكامها.” [المرجع السابق].

باختصار، العقل الذي كان صفة للنفس عند انفصالها عن الجسد هي صفة للجسد الحي عند اتصال الروح به. أما تعلق العقل بالقلب فسيقول ابن تيمية أن لفظ القلب يطلق على الجوف مطلقا كما ويطلق على العضو، ليختار بعد ذلك الدماغ ليكون مبدأ الفكر والنظر فيه (مبدأ الشيءِ: أوّله ومادّته التي يتكوَّن منها، كالنَّواة مبدأ النَّخل، أو يتركَّب منها كالحروف مَبْدأ الكلام [المعجم الوسيط])، أما مبدأ الإرادة فيكون في القلب. إذًا، لم يحرف يوسف سمرين شيئا من كلام ابن تيمية؛ إذ عضو التعقل والمعرفة عند ابن تيمية هو الدماغ، أما إرادة القلب فهي تابعة للدماغ “فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء”، والإرادة ليست علما وإن كانت تستلزمه.

أما نقله عن تعلق المعرفة بالقلب، فلا بد أن يحمل المجمل على المفصل، إذ القلب هنا يقصد به مطلق الجوف لا العضو كما سبق بيانه. لذلك سترى ابن تيمية يقول: “ما يعلمه الإنسان من حق وباطل فإنه يقوم #بقلبه ويحل بروحه المنفوخة فيه المتصلة بالقلب الذي هو المضغة الصنوبرية الشكل”، فقلبه يقصد بها جوفه، لا العضو كما هو المقصود من لفظة القلب الثانية. وما فصله ابن تيمية عن علاقة الفكر والنظر بالدماغ وعلاقة الإرادة بالقلب يكفي لحمل ما هو مجمل عليه.

===

الموطن الثاني:

يقول أن هناك أحاسيس تبدأ من الروح لا الجسد، وليستدل على ذلك اقتبس كلاما لابن تيمية يقرر فيه التفاعل بين البدن والروح (كأن خصومه لا يسلمون بذلك)!!!

لن يكتف بذلك، بل سيقتبس عن ابن تيمية كلاما يناقض قوله هو: “ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه، أعني ألمه ولذته النفسانيتين وإن كان قد يحصل فيه من الألم من جنس ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم فلذلك شيء آخر” [المجلد السادس من مجموع الفتاوى]. إذًا، فاللذة والألم النفسيان يقومان بالقلب (وقد سبق الحديث عن معنى القلب)، أي بالجسد، لذلك ترى ابن تيمية عندما يفرق بين «اللذة والألم النفسيين» و«اللذة والألم الجسميين» يتبعه تفريق بين «القلب» و«سائر الجسد»!! لا أن النفس منعزلةٌ عن أعضاء التعقل الجسدية!

إذًا، فكلام الناقد هنا ليس إلا مصادرةً على المطلوب. زد على ذلك تحريفه لكلام يوسف عندما تعرض لقول أحدهم من أن منشأ الوعي