والماديون لا يعنيهم الصيغة التي يجري التعبير بها عن فلسفتهم، سمها الشيئية مثلًا، لا إشكال، بالانطلاق من الأشياء إلى الذهن، وليس هذا حديثًا عنهم دون أن يقولوه، فهذا لينين وهو مادي لا شك في هذا، قال: “المقصود عندنا لا يتعلق بهذه الصياغة أو تلك للمادية، بل بتضاد المادية للمثالية، بالفرق بين الخطين الأساسيين في الفلسفة، أمن الأشياء نمضي إلى الإحساس والفكر، أم من الفكر والإحساس إلى الأشياء” [5]، لا مشكلة مع الصيغة مع اللفظ، بدل أسلوب المماحكة اللفظية الهزيل.

فهنا يسمي المعينات في الخارج بالأشياء، وكما هو معلوم فإن سلف المثالية ((الدينية)) في الوسط الإسلامي كان جهم بن صفوان، وكان يمتنع عن تسمية الله بأنه [شيء] حتى لا يشارك الماديين الذين قابلهم جهم كذلك [السمنية] في نظرتهم للوجود، كل هذا يقفز عنه الدعجاني ليقول: هل الله مادة؟ ويحتاج جاوبًا دون استفصال، له أن يسلك ما يشاء لكن حتمًا ليس هذا من ابن تيمية في شيء.

ويقفز الدعجاني إلى الغيب ليقول: " بتلك الرؤية المادية الصارمة يتعاطى الكاتب مع عالم الغيب، منطلقًا من الاعتقاد الجازم بأن كل موجود خارج الذات مادي محسوس". هل هذا الرجل قرأ ابن تيمية؟ ابن تيمية ماذا قال في الغيب؟ قال: “الموجود هو ما يمكن الإحساس به، ولو في الآخرة، وأن ما أخبرت به الرسل من الغيب، كما أخبرت به عن الجنة والنار والملائكة، بل وإخبارهم عن الله تعالى، هو مما يمكن معرفته بالحس، كالرؤية، فهذا قول جماهير أهل الإيمان بالرسل، وسلف الأمة وأئمتها، فإنهم متفقون على أن الله يرى في الآخرة عيانًا، كما يرى الشمس والقمر”[6]. انظروا ماذا يقول ابن تيمية، إن الموجود ما يمكن الإحساس به ولو في الآخرة، على منطق الدعجاني ابن تيمية ينظر إلى الوجود بما فيه عالم الغيب بأنه كل موجود خارج الذهن مادي محسوس، بل ابن تيمية يذهب أصرح من ذلك بقوله: “الرسل لم تفرّق بين الغيب والشهادة، بأن أحدهما معقول، والآخر محسوس، كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية، ومن شركَهم في بعض ذلك، وإنما فرّقت بأن أحدهما مشهودٌ الآن، والآخر غائب عنا لا نشهده الآن، ولهذا سمّاه الله تعالى غيبًا” [7] ابن تيمية لا يفرق بين المشهود [المادي] والغيب بأن واحدًا منهما معقول وآخر محسوس، ويحكم بأن المخالف في ذلك من الجهمية، ومن شركهم في ذلك، أقرأت ذلك أيها الباحث في التراث التيمي: ((شركهم في ذلك)).

وقد كان عبد الله الدعجاني يتتلمذ على كتاب (نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود) بطريقة سيئة، فقال: " فهي ـ في نظره ونظر المادي الملحد شوبنهور: " أكثر الأنساق الفلسفية المنطلقة من الموضوع تماسكًا" وأحال إلى كتابي، أحب أن أقول له شوبنهاور لم يكن ماديًا أصلًا، بل هو مثالي، لكن لما زاد من عنده أخطأ، وكما قيل من أحب ألا يعلم مبلغه من العلم فعليه ألا يتحدث فيما لا يعلم.

بالنسبة للمقارنة المعقودة، فهي من ابن تيمية نفسه مع السمنية، ليست مني فحسب، الذي حرص مرارًا على بيان مذهبهم، وتحقيقه، ودفع افتراءات المثاليين عليهم، وهنا حتى لا يختلط الأمر على القارئ، لابد من بيان عدة مجالات يجري الحديث فيها:

1-المبحث في نظرية المعرفة: والماديون ينطلقون من الحس، قبل تشكل الكليات، ولا يعني هذا انحصارهم في المدخلات الحسية والإزراء بالمعقول، فهي ((فلسفة)) معقولة.

2-المبحث في نظرية الوجود: والماديون يقولون بأن الوجود هو الواقع المستغني عنا، وغير تابع لمعارفنا، وقابل للحس.

3-مبحث الأخلاق: والأخلاق تنطلق من الذهن، فهي توصف بالمثالية، ولكن تقع خلفها نظرية المعرفة والوجود فتضبطها عند المادية بخلاف المثاليين.

4-مبحث الإلهيات: وهو مبحث مستقل، ومع ذلك فهو مرتبط مبحث الوجود ومبحث المعرفة، وهنا يوجد مادي مؤمن وآخر ملحد، فالملحد هو الذي يحصر الخارجي في الدنيا، والمؤمن يضيف إليه الآخرة، والإيمان بخالق.

وبهذا يتضح أن هناك خلطًا كبيرًا بين هذه المباحث الأربعة عند العديد ممن تصدروا للكلام في هذا، ويزعجهم أن كلامهم يعريه النقد، ولذا يفزعون إلى الاستعارات اللغوية الفارغة.

وحتى لا أطيل على القارئ أختم بهذا، قال عبد الله الدعجاني بأنه يريد: “الاكتفاء ينفي المثل عن الله ((ليس كمثله شيء))، وهذا اعتراف صريح بنفي المادية عن الله؛ لأن “المادة” مخلوقة ندرك بعض مظاهرها إدراكا حسيًا، وهي داخلة دخولًا أوليًا في نفي المثل عن الله”. يذكر هذا بعقلية الجهمية، “قال أبو عبد اللَّه أحمد بن حنبل: قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة: تقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

فقلت له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] قال: ما أردت بها؟ قلت: القرآن صفة من صفات اللَّه تعالى وصف بها نفسه، لا ننكر ذلك ولا نرده.” [8]