“يسير الناس في النهاية إلى أقدارهم التي رسمها الله عز وجل سبحانه وتعالى، ولكنهم مع ذلك يسيرون إليها طواعية من دون أن يجبرهم أحد! ولكن كيف ذلك؟ كيف أن الله اختار لهم سلفًا مصيرًا هم سائرون إليه، ثم مع ذلك هم اختاروا بإرادتهم الحرة هذا المصير؟! كيف لم يحدث ولو مرة واحدة ولو على سبيل الخطأ، ولو على سبيل الاستثناء أن يكون اختيارهم الحر خارجًا عن اختيار الله؟ الإجابة: لا أدري! وأنت أيضًا لا تدري، وكل البشر لا يدري!” [١]


بهذه الطريقة: هو لا يدري، ولم يقل لعل غيري يدري، ويصوب لي، بل يجزم بكل تواضع بأن كل البشر لا يدرون!

أدنى مطلع على هذا المبحث في العقائد الإسلامية يعلم أن مبحث القدر من المباحث التي أفاض في بيانها العلماء، واستعمل اصطلاحًا لم يرد فيها بل يوجد في كتب الفلسفة وكتب اللاهوت النصراني (الإرادة الحرة) ويقابله في المباحث الكلامية (مبحث الإرادة والفعل-خلق أفعال العباد)، وبيانه يظهر عدم تصوره للمسألة، فقد صوّر المسألة غلطًا في البداية حين افترض أن هناك نقطة محددة سلفًا في القدر يصل إليها البشر طواعية وكأن اختيارهم خارجٌ عن مبحث العلم الإلهي والخلق، ثم يصل إلى تلك النقطة المحددة سلفًا.

ويقول: كيف لم تخرج إرادتهم ولو بالخطأ عن إرادة الله، سيجيبه المتكلمون في هذا لأن هذا (مستحيل) يعني: ندرك امتناعه؛ لامتناع أن يجهل الله الغيب، وامتناع أن يكون في ملكه ما لا يخلقه.

وأهل الحديث يثبتون أفعال الله عز وجل، ففعل الخلق يقوم به، وأما أفعال العباد فمفعول الله، وبهذا لا يحصل تنازع بين فعل العبد وفعل البشر كما يصوره الكاتب، حيث رأى أن اختيار الله [الذي هو فعله] يتحد مع اختيار الإنسان [الذي هو مفعوله] ويقول بدون جبر!

فلو كان فعل الله هو فعل العبد لكان هذا الجبر بعينه كما قال جهم بن صفوان.

ولو كان فعل الله هو مفعوله، لامتناع قيام الحوادث فيه، كما قال الأشعري وهو خالقه للزمه الجبر، كما ألزمه المعتزلة وابن تيمية وغيرهم له.

وحتى يفر المعتزلة من هذا قالوا بعدم خلق أفعال العباد من الله.

وكلهم يسلم أن هذا مدرك بالعقل، مهما كان جوابهم، لا أنهم يقولون بأنهم لا يدرون وكل البشر لا يدرون.

مبحث [الإرادة الحرة] من المباحث التي قال كانط فيها: نسلمها دون قدرة من العقل المحض على إثباتها بل نسلمها قبليًّا، والكاتب يقترب من هذا حين يقول: لا يدري، ومع ذلك يثبتها، فكيف يثبتها؟ إن كان بالنص فليس في النص ذكر للإرادة الحرة، وإن كان بالعقل فلابد أن يدري ما يقول المرء قبل إثباته أو نفيه.


[١] الإجابة القرآنية؛ كيف أجاب القرآن عن أسئلتك الوجودية؟ مهاب السعيد، عصير الكتب للنشر والتوزيع، ص٣٢٩.