خلط الكانطية بالمباحث العقدية في القدر..
“كانت الميتافيزيقا عند كانط هي حدود المعرفة… الفلاسفة الميتافيزيقيون بشكل عام … توصلوا في النهاية إلى الكلمة التي أقرها عليهم أستاذ الفلسفة زكريا إبراهيم، حين قال: الأصل في الحرية هو سرٌ هيهات لنا أن نزيح النقاب عنه!
هذا السر هو ما عناه علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنه حين قال في كلمته الخالدة التي جعلتُها آخرًا لأنه أفخرهم بلا منازع: “القدَر سر الله عز وجل في خلقه فلا نكشفه” أي لا تحاول أن تميط اللثام عن هذا السر فهو لن ينكشف أبدًا، ليس لك، وليس لي، وليس لهؤلاء الأدباء وليس لأولئك الفلاسفة، وليس لأي أحد” [١] ——————— الكلام الأول منتزع من كتاب (الغيب والعقل) لإلياس بلكا، ومرده إلى تقريرات كانط، فقد رأى كانط أن الله والحرية، والنفس لا يمكن إثباتها بالعقل المحض، وليسلّم بها كان عليه بنظره “أن أضع العلم جانبًا لكي أحصل على مكان للإيمان” [٢] ولكن الإرادة ضرورية في العقل العملي أي الأخلاقي [٣].
أي إن النظرة التي ينسبها الكاتب باستحالة معرفة العقل للإرادة لمن يسميهم بالميتافيزيقيين هي نظرة كانط الذي أثر فيمن يذكرهم، مع التنبيه بأنه ليس كل ميتافيزيقي على هذا القول.
ومع ذلك هذه وجهة نظر كانط التي يخالفه بها أئمة المسلمين فلا يسلمون له باستحالة الاستدلال العقلي على الله، والنفس، وأفعال العباد وإرادتهم، التي يسميها مبحث [حرية الإرادة] ولا يقولون بأن إثباتها مجرد مسلّمة لإنقاذ القانون الأخلاقي.
أما للكلمة ((الخالدة)) التي فسرها الكاتب بطريقة كانط!! هذه الكلمة “القدَر سر الله عز وجل في خلقه فلا نكشفه” إنما تروى عن علي كالتالي: “سر الله فلا تُكلفه” [٤] فتصحفت على بعضهم إلى “فلا تكشفه” ونقل الكاتب الكلمة المصحّفة.
وهي رواية إسنادها “ضعيف جدًا”[٥] في إسنادها مجاهيل ومتهمون بالوضع، لا تصح عن علي بن أبي طالب، وكل ما ذكره في تفسيرها مجرد كانطية.
ولو كان القدر يمتنع إدراكه عقلًا لما جاز الحديث فيه، فإن الحديث في “الروح ((والقَدر)) والتعديل والتجويز والعقل والنفس قد يُظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقًا، وليس كذلك، بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم، وإنما يذم الكلام الباطل والكلام بلا علم” [٦]، “وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم فيه، تكلم بلا علم” [٧]، فهو من المدركات العقلية التي يمدح من تكلم فيه بحق وعلم، لا أنه لا يدري ويزعم جهل كل البشر فيما لا يدريه.
——————— [١] الإجابة القرآنية؛ كيف أجاب القرآن عن أسئلتك الوجودية؟ مهاب السعيد، عصير الكتب للنشر والتوزيع، ص٣٣١. [٢] نقد العقل المحض، إمانويل كَنت، ترجمة: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: ٢٠١٣، ص٤٦. [٣] انظر: نقد العقل العملي، إمانويل كَنت، ترجمة: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: ٢٠٠٨، ص٢٣٠. [٤]الشريعة، الآجري، تحقيق: عبد الله الدميجي، دار الوطن، الطبعة الأولى: ١٩٩٧م، ج٢، ص٨٤٤. [٥] انظر تخريج المحقق لها: الشريعة، الآجري، تحقيق: عبد الله الدميجي، ج٢، ص٨٤٤، ٨٤٥. [٦] درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، ج٧، ص٣٣٠، باختصار. [٧] درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن تيمية، ج٧، ص٣٢٩.