المادية والمسيحية التوحيدية…
من مساوئ منصات التواصل الاجتماعي هو أنها تفتح مجالًا لكل من العالم والجاهل للتكلم فيما يريد. وإذا ما احتد النقاش بينهما -أي بين العالم والجاهل- في مسألة من المسائل فإن الغلبة لا تكون للأوفر عقلا والأدمغ حجة -كما قد يتوقع الكثير- بل تكون للأكثر شعبية والأغزر متابعة.
إن هذا المنشور يتعرض صراحة إلى أولئك المهتمين بالرد على الإلحاد، الذي كان جلّ ما يصنعون في كفاحهم المزري هو ترجمة ما يقرره علماء اللاهوت؛ يأخذون عنهم الغثّ والسمين -وهو قليل- بلا تمحيص، ولولا حلم الله عليهم لاتخذوا عقيدة من التثليث!
يزعمون بجهل أن المادية والإلحاد شيء واحد، وقد قيل لهم مرارا أن من الفلاسفة من كان مثاليا وهو في الوقت نفسه جاحد. فكيف إذا عرفوا أن المادية كانت البذرة التي بعثت منها المسيحية التوحيدية بعد أن تسلطت عليها الكنيسة؟ أتراهم يراجعون مواقفهم أم أن قلوبهم قد أشربت المثالية؟
جوزيف بريستلي Joseph Priestley عالم طبيعي وفيلسوف و"لاهوتي"… إسهاماته في العلوم الطبيعية غزيرة جدًا: كان أول من اكتشف خصائص الأكسجين وأول من تعرف على ثاني أكسيد الكربون وأول من اخترع السوائل المكربنة (المشروبات الغازية) وأول من تعرف على العمليات الأساسية في البناء الضوئي… ما لا يعرفه الكثير هو أنه كان ماديًّا وأنه بماديته أحيا المسيحية التوحيدية. فما قصة الرجل؟
باختصار، بريستلي كان ثوريا منذ البداية: أنكر وجود الحرية التي تعارض الحتمية (الـ Libertarianism التي تثبت الإرادة الحرة على حساب الحتمية)، واعتنق المادية بحذر وتروي. أما ما جعله يلتزم المادية بشكل جذري هو رحلته في أرجاء أوروبا والتي اشتملت على إقامة في باريس. هناك التقى بالماديين الفرنسيين -الذين كانوا ملحدين-، أهمهم كان بارون دولباخ Baron d’Holbach الذي زاره بريستلي مع صديق السفر اللورد شيلبيرن Lord Shelburne. مع أن بريستلي كان متعاطفا مع كثير من الآراء الفلسفية التي قابلها، إلا أنه اعتبر النظرة المناهضة للمسيحية غير منصفة لأنها لم تستطع أن ترى الجوهر الحقيقي للمسيحية، الجوهر الذي شوهته الكنيسة. هنا بريستلي -على عكس أصحابنا الذين لا يعرفون شيئا من التدقيق والتمحيص- عالج المعضلة بموضوعية وتوصل إلى أن “إن تعزيز المنفعة الحقيقية للمسيحية بهدم العمادات الضعيفة والمتعفنة لا يقل أهمية عن تزويدها -أي المسيحية- بعمادات أصلب وأمتن”.
إن مادية بريستلي جعلته يقرر بكل صراحة أن المسيح ما هو إلا رجل مثلنا؛ فالمادية تعارض جوهر التثليث. أما عن طبيعة الله، فيقول أننا لا نعرف ذات الله فلا نستطيع أن نقيس ذواتنا عليها، فإن كان نفي المادية عن الله يقصد به نفي كيفياتنا المادية فلا يرى بريستلي مانعا. أما إذا كان يقصد منها نفي أي قدر مشترك مادي بين ذاته وذواتنا فهذا مما عارضه بريستلي؛ فالإله غير المادي لا يقدر على التأثير في خلقه. كأن بريستلي يقول للرادين على الإلحاد: نفي المادية عن الله يقتضي أن يكون مجرد فكرة!
إن هذا العرض المختصر والمجحف بحق جوزيف بريستلي يجيب عن التساؤل: هل المادية تنفي الإله؟ والجواب: إن كان إلهك مثاليا لا يحس ولا يشار له، فالجواب نعم. أما إن كان تصورك للإله مادي مثبتا فيه صفات العظمة والجلال له، فلا أرى أي موقف فلسفي بإمكانه الدفاع عن هذا التصور غير المادية..
#إعادة_نشر