قرأت نقدًا على كتاب «نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود» تحت عنوان «التعليق الودود على كتاب نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود» يقع في ١٩ صفحة. يمكن أن تختصر أوجه النقد في ٣ نقاط:
١. الفطرة والفلسفة: يقول الناقد أن إنكار المادية قول المثاليين بوجود ما لا يقبل الحس إنما هو راجع في الحقيقة لموافقتهم الفطرة لا لأصلهم المادي.
النقد: هذا خلط بين الفطرة والفلسفة، فالفلسفة بناءٌ فكريٌ عام ينطلق من الفطرة أو ينقطع عنها. وقد يتفق بناءان في موقفهما من الفطرة ويختلفان اختلافا جذريا: فالماديون مثلا يساوون بين الفطرة والواقعية الساذجة ومن ثم يبنون عليها (مثل لينين)، وقد انطلق باركلي من الفطرة «الحس المشترك» وزعم أن فلسفته موافقة لها كما في أطروحته عن مبادئ المعرفة الإنسانية. إذًا، الفطرة -مثل الحس- توظفها فلسفات مختلفة، وكما وظف الحس في المادية (قابلية الحس) والمثالية الذاتية (آنية الحس)، فيمكن توظيف الفطرة في فلسفات متناقضة.
===
٢. رفض الماديين [الماركسيين] الاعتراف بمادية المؤمنين: فعنده المادية تستلزم ضرورةً الإلحاد، ولا يمكن أن يوفق المرء بين المادية والإيمان باتساق.
النقد: الوجه الأول: لا أعلم أي الماديين يقصد، فماركس نفسه في «نقد النقد النقدي» المعروف بـ «العائلة المقدسة» نسب تأسيس المادية الإنجليزية إلى فرانسيس بيكون (المسيحي)، قبل أن يطورها توماس هوبز. وسترى الماركسيين ينسبون إلى المادية بعض من قال بوحدة الوجود: كهيراقليط واسبينوزا (مع أنهم لم ينسبوا هيجل إليها، وهنا إشارة إلى أن المادية لا تعارض مطلق الإيمان). بل إنه نسب ماركس تخليص المادية من لاهوت بيكون إلى جوزيف بريستلي، العالم الكيميائي والفيلسوف المادي والمسيحي الموحد!
الوجه الثاني: على فرض أن الماديين لا يعتبرون المؤمن الذي وافق أصلهم منهم، فما لنا ولهم؟ أيحسب الناقد أن المادية دين لها شريعة ونبي؟ أم أنه توجه فلسفي له أصول تاريخية يوافقها المادي ويخالف بعضها أو كلها المثالي؟ خذ الماركسية مثالا، فهي أخذت المادية عن فويرباخ والديالكتيك عن هيجل، مع أن الأول يخالف الديالكتيك فيعتبره لاهوتا مسيحيا، والثاني يخالف المادية إذ إنها تعارض أصوله. أينفي اختلاف كل من فويرباخ وهيجل مع الماركسيين ماديتهم وديالكتيكهم؟ هل مخالفة ماركس لفويرباخ يجعله مثاليا؟ ما هكذا تصنف الفلسفات.
===
٢. الإلحاد في المادية فعل لا ردة فعل: يعترض الناقد على توصيف سمرين العلاقة بين المادية والإلحاد، فيرى أن الإلحاد لازم من لوازم المادية بمعزل عن التصور المثالي للإله.
النقد: استشهد الناقد بنقولات عن الماركسيين ليبرر موقفه هذا، ويظهر هذا أن الرجل لا يمتلك نظرة تاريخية لتطور الفلسفات؛ فلو أنه استحضر، كما قلنا، أن مادية الماركسيين مستفادة من فويرباخ، وأن فويرباخ كان قبل اعتناقه للمادية هيجليا مؤمنا، لعلم أن الإلحاد في ماديته ما هو إلا ردة فعل على التصور المثالي للإله، ودفع له إلى آخر نتائجه المنطقية.
لننظر الآن إلى السياق الأعم، ألم تسيطر الكنيسة بفلسفتها التوماوية المثالية على أوروبا في العصور الوسطى؟ ألم يتعطل البحث العلمي بسبب هذه الفلسفة وتسترها خلف الإله؟ ألم تحدث الثورة العلمية مع صعود الفلسفات المادية في عصر التنوير؟ ثم يقال أن المادية لم تكن ردة فعل! حقا، إنه لمن القبيح الخوض فيما لا يجيده المرء.
باختصار، لم يستطع الناقد أن يفند مقدمة واحدة من المقدمات التي بنى عليها خصمه طرحه، ولم يستحضر التطور التاريخي للأفكار على الوجه الصحيح، ولعل سبب امتعاض الكثير من الكتاب هو لفظ «المادية». فإن كان هذا هو الحال، إن كان مبرر الخلاف هو اللفظ والاصطلاح، فلعل الألفاظ مثل «الشيئية» و«التعيينية» و«الجسمية العامة» التي أطلقها الفيلسوف البولندي تادوش كوتاربينسكي على فلسفته المادية تخفف عمّن يختبئ من بعبع الألفاظ.