ابن تيمية.. والإمداد الفلسفي للسلفية: مراجعة كتاب «نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود» ليوسف سمرين

“إلحاد السمنية المعلن حوى في أحشائه نظرية تتفق مع الإيمان السليم، وتحت إيمان الجهم المعلن كان الإلحاد متربعا على عرش نظرياته المثالية.” [١]

بهذا النص اختتم المؤلف كتابه الذي يقع في أكثر من ٥٠٠ صفحة، والذي كان لا بد من أن أكتب مراجعة مفصلة عنه.

المحتوى:

قُسِّمَ الكتاب إلى ١٩ فصلا [٢] سطّرت بعناية ورتّبت باهتمام؛ ففي الفصل الأول تكلم المؤلف بإيجاز عن دخول الفلسفات الإغريقية (خاصة الأرسطية) على الفرق الإسلامية المتناحرة آنذاك، وكيف تم توظيفها فكريا في ذاك الصراع.

يعرجُ المؤلف في الفصلين الثاني والثالث إلى الموقف الرافض للفلسفة باعتبارها سبيلا للكفر والضلال، كما هي حال ابن الصلاح والذهبي من “المتقدمين” والألباني وابن باز من المتأخرين، ليقارن المؤلف ويفارق بين هذا الموقف وموقف ابن تيمية الذي لطالما اعتبِر رمزًا وعَلَمًا للسلفية؛ فابن تيمية يقرّ باختلاف أقول الفلاسفة وتباينها، وأن هناك فلسفة صحيحة تقتضي اتباع ما جاءت به الرسل. وفي الفصل الرابع يبين المؤلف التطور الفكري الذي مرٌ به ابن تيمية، والنضوج العقلي الذي وصل له.

في الفصل الخامس يتعرض الكاتب لما يسمى “المسألة الأساسية في الفلسفة”، عارضا طرفي الصراع: المادية والمثالية بشقيها الموضوعي والذاتي.. مبينا أن المادة تعني الوجود المعين، المتغير المحسوس، وهي ما تنطلق المادية منه، وأن المثال هو الوعي، أي الأحاسيس والأفكار في ذاتها، وهي ما تنطلق منه المثالية الذاتية والمثالية الموضوعية على التوالي. يشرح المؤلف أن المقصود بالمحسوس هو ما يقبل الحس وإن لم يقع عليه بعد، وهو الشيء الخارجي وليس الانطباع الحسي نفسه. ينبه المؤلف على أن المادية لا تهمل المعارف العقلية بل تعتبرها علوما تختلف نوعيا عمٌا يعلم بالحس، وإن كانت تشترطه. في الفصل السادس يعرض موقف ابن تيمية من تلك المسألة، وكيف أنه كان ماديا في تعامله مع الموجودات. هذا الفصل كان مجملا إجمالا لا يخل، ومع ذلك فصّل لاحقا في الفصل الخامس عشر. ويقف المؤلف في الفصل السابع على العداء الذي قوبلت به المادية، والتشويه الذي افتعلته الفرق المثالية موظفةً الإيمان.

الفصول ٨-١١ تحكي قصةً مهمة: تطور المثالية في اليونان ودخولها الرسمي عن طريق الترجمة إلى العرب، الحدث الذي كانت تنتظره تلك البذرة التي زرعها جهم في نفوس غالب الفرق آنذاك، حيث أصبحت المثالية هي الدين، ومن يبتغ غيرها ديننا فهو في ضلال مبين. يعرض المؤلف عدة مشكلات واجهت التصور المثالي للإله: منها المعضلة الزباء والداهية الدهياء، وتجدد علم ما لا تقوم به الحوادث عندهم. يتحدث الفصل الثاني عشر عن المثالية في اليهودية والنصرانية، ويبين الفصل الثالث عشر أن الإلحاد هو النتيجة المنطقية الأكثر اتساقا مع المثالية.

الفصل الرابع عشر يتحدث عن قصة أخرى لا تقل أهمية: الصراع مع المثالية قبل ابن تيمية. سلّط المؤلف الضوء على البذور المادية عند عدد من كبار الحديث، ليبرز بعدها اسم الدارمي: الفيلسوف الذي التزم المادية ليصارع بها مثالية جهم، والذي سيوصي بكتبه من بعد ذلك ابن تيمية.. في الفصل الذي يليه سيعرض يوسف سمرين موقف ابن تيمية من الوجود والمعرفة بشكل مفصل، وسيرد في الفصلين اللاحقين على أكثر ما يستدل به خصوم المادية: الروح والفطرة. في الفصل الثامن عشر سيوظف المؤلف نظرية ابن تيمية في نقد ما أسماه بالمنهج الميتافيزيقي، وسيدافع عن الموقف التيمي من المجاز وينتقد الديالكتيك، أما في الفصل الأخير فسيستعرض يوسف ما تفرع عن نظرية ابن تيمية من مواضيع.

===

التعليق:

لغة الكتاب سهلة وسلسة، وأسلوب القصص الذي اتبعه المؤلف سيجذب القارئ وسييسر له فهم الأصول الفلسفية التي انطلقت منها كثير من الفرق الإسلامية.

بلغ عدد المراجع التي استخدمها المؤلف فوق الـ ٦٠٠ مرجع، وكان أغلبها مصادر أولية اقتبس منها بشكل منظم ولم يكرر إلا متى دعت إليه الحاجة.

أما كثرة من انتقدهم المؤلف فكان لا بد منه؛ إذ سبقوه فتكلموا فيما تكلم هو به، ونصروا ما كان يخطّئهُ ويعاديه. ولم يمنع ذلك المؤلف من تصحيح من رآه قد وافق الحق ممن سبقه.

إن النتيجة التي وصل إليها المؤلف لم يسبقه إليها أحد، والكتاب خطوة لا بد منها نحو بناء فلسفة إسلامية معاصرة وأصيلة. قراءة الكتاب واجبة على من هو مهتم في هذه المباحث، بغض النظر عن موقفه من النتيجة التي أصّل لها الكاتب.

إن السؤال الذي يطرحه الكتاب -بنظري- هو: أما آن للسلفية أن تأخذ بهذا الحبل الذي حبكه ابن تيمية؟ أم أن السلفية في جوهرها “ذهبية” تعادي الفلسفة، متخبطةً في سيرها لترتمي بعد ذلك في أحضان المثالية، كما هي حال الدعجاني الذي اعتبر طرح ابن تيمية متفقا مع فلسفة كانط؟

[١] صفحة ٥١٤، وهي ضمن الخاتمة. [٢] استثنيتُ المقدمة والخاتمة وقائمة المصادر والمراجع.