ترجمة مغمورة مؤثرة لأحمد بن الخليل بن سعادة الدمشقي بقلمه [٦٧٨هـ]:

“في صغر سني تمكن الضَّعف مني، بسبب أسقام أطالت بي المقام، وكثرة الآلام أحالت مني العظام، حتى رقّ لحمي ودقّ عظمي، وأبي في تضاعيف ضعفي، مع أن بي من الضعف ما يكفي، يُكلفني تكليفًا يفتت الحَصا، وأنا فيه لا أشق له العصا.

فآتي بوظائف التكرار في المسا والصباح فوقَ طوق الصغار الأقوياء الصحاح، حتى حفظتُ البُلغة والمصادر وأنا ابن عشر، ثم حفَّظني اللّمع، ونزهة الطرف، والمقامات، وكثيرًا من الشِّعر قبلَ أوانِ إنباتِ الشَّعر، ثم شغلني بالتفقه زمانًا يسيرًا إذ كان في عزمه أن يعلمني من الطب شيئًا كثيرًا، لِما حدَث من خمود وخمول الفقهاء، ورأى كثرة حاجة الأحباء إلى الأطباء.

فحفَّظني مسائل حُنين ومرشد بن زكريا، ثم قرَّأني ذخيرة ثابت بن قرة، وأنا من المشقّة في حياةٍ مُرّة، أرى في الموت أعظمَ مَسَرّة! فلما بلغتُ من سِني الحلُم وملكت من نفسي الحُكم، تركتُ الاشتغال أصلًا ورأسًا من شدة المَلالة وعاشرتُ في السوق أهلًا وناسًا غلبَ علبهم الجهالة، وفتحت في جوارِ أبي دُكانًا، واتجرتُ فيه زمانًا، وكنت كمسجون أُطلِق، فصرتُ كمجنون أحنَق، تراني للاشتغال بالعلم كارهًا، وفي الحِرفة فارسًا فارهًا!

فقال لي أبي في بعض الليالي: لو فعلت ما فعلت، واشتغلت بما اشتغلت لا بدَّ من أن يكون لك في العلم شان، وإني أريت ذلك في هذا الزمان، واعلم أني كنت في صغري ضدَّ طبعك، ونقيض صُنعك، فإني يأمرني والدي بمعاشرة أهل السوق، وأنا إلى أرباب العلم مَشوق، فأعاشر التجار بسبب ما عليّ من الاحتجار، وأنفلت أحيانًا إلى التعلّم، وأجد على فواته أشدّ التألم.

وبقي التعلم في قلبي إلى أن حملتك أمك، فشغلني عن طلب العلم همُّك، وزال مني الطلب، ومال قلبي إلى جمع المال، فقلت في نفسي: الجزء الطالب منّي هذا الذي انفصل عنّي، وتفرست أن الحَمل بذَكرٍ يعيش ويكون له ذِكر، فلما صح بعض فراستي وجاءني ولد ذكر، وعاش مع كثرة الأمراض وبلغ الحلم وزالت الأعراض، قلت لابد أن يصدق في الباقي فراستي، ولهذا شققت عليك في تعليمي إياك.

ثم سفرني إلى ابن هبل الطبيب لأقرأ عليه القانون، فرغبني قوم في الاشتغال في فنون الظنون، وكان في ذلك الزمان علاء الدين الطاوسي بهمدان مقصد الرجال، ومحط الرحال، يتقن الجدل ويحسن الجدال، فارتحلت إليه واشتغلت عليه.

ثم حملني جمع على السفر إلى خراسان لتعلم الأصول، والتكلم في المعقول فقصدت الإمام فخر الدين الرازي، وكان واحد العصر وأنواع علومه فاقت الحصر، فوجدت في السفر شدّة، وأقمت عنده مدّة، فدبر أبي شيئًا وقدّر ربي غيره، واشتغلت بغير الطب وجعل الله فيه خيري وخيره”.

(السفينة النوحية في السكينة الروحية، أحمد بن الخليل بن سعادة الخوبي الدمشقي، صححه: محمد راغب الطباخ، الطبعة الأولى: ١٩٢٩م، ص٣٠-٣٢.)