“شاهد ما شفش حاجة”
أعلمني بعض الإخوة برد من “يوسف الروقي” على تعليقي السريع على مقال “مصطفى عبد النبي” الذي كان لبيان الخلاف بين ابن تيمية والأشعرية، وكلامه لا يستحق الرد، لكن مع ذلك لا بأس من نصحه بضرورة التعلم.
افتتح الروقي مقاله بعنوان: “الفهم الماركسي لنصوص الصفات” ويحسب له لمسته الإبداعية! حيث لم يتقيّد بقاموس الشتائم الأشعرية التقليدية، من “حشوية، مجسمة … إلى آخره”، مما صخت به المعتزلة آذان الأشعرية حتى حفظوه ثم بعد أن تلقنوه رموا به غيرهم، على عادتهم في محاكاة من اقتات الأشعري على كلامهم ٤٠ سنة.
هذه المرة أبدع الروقي ففزع إلى الطرفة التي عجت بها السينما المصرية فترة من الزمن: “أنت شيوعي يله!” و"البيه من الاتحاد الاشتراكي" كما في مسرحية شاهد مشفش حاجة، “أصله عمال يقول عليّ الطلاق بالتلاتة! -ما قلش يا مفتري”! والمقال لا علاقة له بماركس، لكن عبقرية الرجل نادت عليه: إن لم تستطع الرد، فأنت حتمًا تستطيع الصراخ.
قال في ردي على “عبد النبي” بأنه أرسطي:
“بصرف النظر عن هذه المقدمات الخطابية إقحام المنطق الأرسطي، والقرون الوسطى، وكأن ابن تيمية من فيزيائيي القرن الحادي والعشرين”
أهذه طرفة؟! قد يكون ومع ذلك فلا أنصح الكاتب باحتراف الكوميديا فلا يظهر أن له موهبة فيها، وبصرف النظر عن إقحام المنطق الأرسطي؟! من أقحمه؟ إنه عبد النبي، أم لا زلت لم تعرف أن ما استهل به هو منطق أرسطو؟ فإن لم تعلم فحاول أن تقرأ قبل أن تتكلم، أو سَل أي دارس في هذا، فالحديث بلا معرفة (عادة سيئة)، وإن كنت تعرف فما موقع (بصرف النظر)؟ وهو في الموضوع نفسه، بل من صميم الموضوع، أما قولك مقدمات خطابية، أنت تعرف ما معنى هذا؟ وأنه لا ينطبق على تحرير مذهب أرسطو في موضوع الكلي؟ ما تقوم به لا يرقى حتى إلى الخطابة، بالكاد يحاكي شيئًا مما طالعته محاكاة مشوّهة قد تحصد بعض الإعجابات ممن لا يعرف شيئًا في الموضوع.
أما قوله كأن ابن تيمية من فيزيائيي القرن، بالمناسبة يمكن أن يكون المرء دارسًا للفيزياء وجاهلًا بالمنطق وتاريخه، وقد يكون فيزيائيًا ومؤمنًا بأحط الاعتقادات الباطلة، ويستنجد لنصرتها بالمغالطات، وسأحكي لك حكاية قصيرة، كان هناك في القرن العشرين باحث أشعري، حتمًا يفوقك بمراحل في المعرفة، كتب عن (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) ألا وهو علي سامي النشار بحث في مذهبه العقدي ليجد ردًا شافيًا على منطق أرسطو، لم يجد للأسف، بل وجد أن الجويني مهد له، والغزالي شكك بعلوم من لم يتقنه، فاضطر إلى الإسهاب في بيان نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطي، ووصفه بأنه نقده نقدًا علميًا، فحاول أن تدقق قليلًا قبل أن تطبع الحروف، ليس فرانسيس بيكون ولا ديكارت ولا هيجل ولا مل ولا ديوي وغيرهم ممن نقد المنطق الكلاسيكي الأرسطي من فيزيائيي القرن!
قد يماحك ويقول هؤلاء بعد ابن تيمية بقرون، فيقال حتى في اليونان قبل ابن تيمية بقرون كان هناك من نقد المنطق الأرسطي فهناك شيء اسمه المنطق الرواقي! فالدراسة قبل التكلم، فما تقوم به لا يرقى حتى إلى الخطابة بل لا يصلح موضوع إنشاء.
قال: “يفسر الأستاذ حصول المفاهيم الكلية حسب مذهبه فالعقل عنده يستقبل المدخلات الحسية ويركبها ويقيس عليها”
هذا مذهب ابن تيمية نفسه، الذي يفترض أن يكون عبد النبي يفهمه، لا أن يجعل هذه النقطة الخلافية مقدمة لبيان الخلاف! ويأتي الروقي ليكشف بعبقرية أن هذا مذهبي، يقول ابن تيمية: “الإنسان … إنه يحس الأشياء، ويشهدها ثم يتخيلها ويوهمها ويضبطها بعقله، ويقيس ما غاب على ما شهد” حتى إن “العقل إذا جزم بامتناع اجتماع الأمرين أو ارتفاعهما… فإنا نعلم ذلك ابتداءً بما نشهده من الموجودات” ومسألة قياس الغائب على الشاهد هي من هذه المسألة، لكن لهؤلاء عالم موازٍ يناقشون فيه أنفسهم ويعلنون انتصاراتهم فيها على أفهامهم لغيرهم.
بالنسبة لاعتذاره عن [عبد النبي] أنه قصد بنفيه أن الألفاظ تدل على كلي بأنه قصد في الطبائع، فيقال له: ما قاله بأن الطبيعي كلي موجود في الخارج ضمن الأفراد، هذا عليه الاعتراض نفسه، على مذهب أرسطو فالصور التي لا تنفصل عن الأفراد إنما هي كلي أو مثل أفلاطون زعمها في الخارج لكن ليست مستقلة كأفلاطون، فيبقى اللفظ فيها يدل على كلي، وهو محل النزاع وهذا يظهر أنه لم يفهم حتى التعليق الذي وصفه بالخطابة، لا عليك تجاوز هذا لكن لا تفتي، ادرس الأمر أكثر.
ثم جاء بما يظهر أنه أجنبي عن فهم ما قيل، فاستغرب كيف أنفي عن ابن تيمية أنه يقول بالاشتراك المعنوي، مع نفيه المباينة التامة من كل وجه في الواقع، وفرح بنص لابن تيمية يقول فيه: “والمخلوق لا يشارك مخلوقًا في شيء من صفاته، فكيف يكون للخالق شريك في ذلك” “ليس بين مخلوق ومخلوق في الخارج شيء مشترك”
فيقال له: أحشفًا وسوء كيلة، فقد يغضي المرء عن عدم فهمك لهذا الموضع، لكن أن تزايد وتتبجح بأنك وقفت عليه، حسن سأشرح الأمر: