خلاف ابن تيمية مع الأرسطيين.
أرسل لي بعض الإخوة مقالا لمصطفى عبد النبي، بعنوان: (منشور مهم لتوضيح الخلاف مع ابن تيمية)، وقد حاول فيه أن يبيّن فيه الخلاف بين (الأشعرية) و(ابن تيمية) في مسائل الصفات، وأول ما افتتحه كان بيان عدد من المسائل الأرسطية، كضربة لازم على كل منتسب إلى الأشعرية أن يستعين لبيان عقيدته بأرسطو، وسأعلق سريعًا على بعض ما جاء فيه:
ففي غمرة انهماكه في بيان بعض مقررات القرون الوسطى في المنطق الأرسطي قال: “المعقول الأول هذا يسمى: الكلي الطبيعي، أي: الموجود في الخارج، والصحيح عندهم: أن وجود الكلي الطبيعي في الخارج: إنما هو في ضمن أفراده، يعني هو بذاته لا وجود له مستقل، بل الموجود في الخارج هي الأفراد التي منها انتُزع هذا المفهوم الكلي.”
وهذا الذي قاله إنما يصدق على مذهب أرسطو من بين الفلاسفة، فالكلي عند أفلاطون له وجود في الخارج منفصل عن الأفراد، هو قائم بذاته، أما أرسطو فتأثر بمذهب معلمه أفلاطون، لكنه نفى أن يكون هذا الكلي مستقلًا لكنه موجود في الأفراد، مثل مذهب الحلول، أي المثال الأفلاطوني حال في الأفراد الجزئية، وابن تيمية يرفض المذهبين، فعلام هذه المقدمة؟ فالكلي ليس مستقلًا ولا حالًا في الأشياء في الخارج، بل هو في الذهن فحسب! فتخيل رجلًا يريد أن يبين موطن الخلاف يتحاكم إلى مقدمات تمهيدية هي أصلًا من مواطن الخلاف!
قال: “أما المعقولات الثانية: فهي المفاهيم التي يخترعها العقل ابتداءً، أي: لا يكون آخذًا لها من موجوداتٍ خارجية”، وهذا تابع للإشكالية نفسها، فمن قال بأن الجميع يتفقون على أن الذهن يخترع ابتداءً مفاهيمه دون أن يكون أخذ شيئًا منها من الخارج، إن العقل يشكل مفاهيمه، على أرضية المدخلات الحسية، ويركب من مدخلاته، ويقيس عليها، ويبني عليها، وبالتالي فإن مفاهيم العقل دومًا مشوبة بشيء من مدخلاته الحسية مهما بلغت من التجريد.
قال: “اعلم أن الألفاظ لا تدل على المفاهيم الذهنية الكلية، بل تدل على المعاني الجزئية الموجودة في الخارج”، وهذا أيضًا غير صحيح، بل الألفاظ قد تدل على المفاهيم الكلية، وقد تدل على المعاني الجزئية، والمعاني الجزئية والكلية قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة، ولو كانت الألفاظ لا تدل على المفاهيم الذهنية الكلية لما كتب أحد في الفكر ولا الفلسفة، وكثير من مباحثها إنما هي مفاهيم كلية. قال: “هل يمكن أن يشترك شيئين [شيئان] اشتراكًا معنويًا ذهنيا، ويكون بينهما في الخارج تباينٌ مطلقٌ من كل وجه؟ الجواب: لا؛ لأنه لا يمكن الحكم بكون شيئين قد اشتركا في معنى، إلا إذا كان بينهما اشتراك في الطبيعة والخارج”. فيقال: استصحب هذا دومًا.
قال: “إذا تقرر هذا؛ فقول شيخ الإسلام بأن بين صفات الخالق وصفات المخلوق اشتراكًا معنويًا ذهنيًا فقط، أما في الخارج فبينهما التباين التام، متناقضٌ غاية التناقض”!
فيقال: أين قال هذا ابن تيمية؟ هذا يظهر أنه لم يفهم مقالة ابن تيمية، وسارع إلى تخطئته وبيان أنه متناقض، وإنما المتناقض فهمه عنه، قال ابن تيمية: “لولا أن بين مسمى الموجود والموجود، والحي والحي، والعليم والعليم، والقدير والقدير، وأمثال ذلك من المعنى المتفق المتواطئ المناسب والمشابه، ما يوجب فهم المعنى لم يفهمه، ولا أمكن أن يفهم أحدٌ ما أخبر به عن الأمور الغائبة”، ولتقريب الأمر الله أخبر عن النار، وعن الجنة، لو كان لا يوجد أي مشابهة بين النار وبين النار التي نعرفها، لما صدق عليها اسم النار أصلًا، فمن جوّز هذا كان على مثل قانون الدجّال، حين تكون ناره جنة، وجنته نار، وصحيح أن الفرق بين النارين كبير، لكن نفي أدنى مشابهة يعني أنها ليست نارًا أصلًا! فهناك فرق بين نفي المماثلة بين نار الدنيا والآخرة، وبين نفي أدنى مشابهة بينهما، وهذا يعني أن ما في الآخرة ليس نارًا. ولا يقول ابن تيمية بوجود اشتراك معنوي، وافتراق تام من كل وجه في الواقع! أين قال هذا في كل كلامه! فلو كان المعنى لا يطابق الخارجي لكان كذبًا فحسب.
حسن ما مذهب الأشعرية في الأمر بنظره؟ قال: “فالفرق بين إثبات شيخ الإسلام، وبين إثبات السادة الأشاعرة: أن إثبات شيخ الإسلام إثباتٌ للصفة باعتبار ماهيتها وحقيتها (قياسًا للغائب على الشاهد)، وهو يلزم منه التشابه في الخارج في قدرٍ ما (بهذا القدر من التشابه.. وقع الاشتراك المعنوي بين الصفتين وحكم الذهن بهذا الاشتراك) أما إثبات الأشاعرة؛ فإنما هو إثبات للصفة باعتبار لزوازمها [لوازمها]، وتلك اللوازم خارجةٌ عن ماهية الصفة وحقيتها [حقيقتها]، ولا يلزم من فهم تلك اللوازم .. فهم حقيقة الصفة، ولا يلزم من وقوع الاشتراك فيها.. وقوع الاشتراك في الماهية المؤدي للتشبيه”