رد بعد سنة، فما الذي كان! (4)

وقد رد على قولي بأن حكاية (قال جهم، فقلنا)، بأنها مشتهرة في كتب الفقه، أي محاورة المقالة، فماذا كان رده؟ قال بأن هذا المسلك " محور عاضد للأدلة التي طرحناها، شاهدة على صحتها، وليس هو دليل أصلي"، ثم بدأ يقول: “هذه الطريقة لم تكن منتشرة بين الأئمة” وعدم الاشتهار لا يعني عدم الوجود! ثم إن أحمد طالع كتب الشافعي كالرسالة وغيرها، وهي مبنية على صيغة المحاورة، يذكر مذاهب أبي حنيفة وغيره ويرجح ويزيّف، قال: أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ: “نَظَرَ َأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ”، وكان كذلك إسحق بن راهويه قد طالع كتب الشافعي وقد اعترف أحمد بعقل الشافعي، ويظهر ذلك جليًا في الأصول، وقد روى ابن أبي حاتم الرازي بإسناد صحيح إلى أحمد بن حنبل: “كَانَتْ أَقْفِيَتُنَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، فِي أَيْدِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا تُنْزَعُ، حَتَّى رَأَيْنَا الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ النَّاسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا كَانَ يَكْفِيهِ قَلِيلُ الطَّلَبِ فِي الْحَدِيثِ”.

ثم جاءت الطرفة حيث قال: “الإمام أحمد محدث حاذق ذكي دقيق، لا يستعمل أدوات توهم اللقي وهو لم يلقى الجهم” مع أن الكتاب ليس في الرواية بل هو محاججة، فأين هذا من ذاك، والأطرف أنه يقول: “والكاتب لا يفهم هذه التفاصيل الحديثية”! هذا مع أن الكتاب ليس في الرواية أصلًا! وقد وصفه ابن مفلح بقوله: “صنف الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه كتابًا في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره، واحتج فيه بدلائل العقول” (الآداب، ج1، ص 227.).

وقوله بأن في الكتاب توهم اللقي بجهم، ير عليه بأن في كتاب الرد على الجهمية: “كان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله” فها هو يصرح بأنه بلغه، بخلاف مقاتل بن سليمان الذي نقل هو نفسه عن ابن بطة بإسناده إلى مقاتل أنه قال: “كان مما علمنا من أمر عدو الله جهم”، ألا يظهر الفرق بين (بلغنا، وعلمنا)؟ وقد نقل المؤلفان عن ابن كثير بأن جهم بن صفوان: “كان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده ويتناظران”، فهل سيقول مقاتل: بلغني عن جهم! وهو معه في المسجد نفسه ويناظره وجهًا لوجه؟

أم هل سيقول مقاتل بن سليمان: “أضل [جهم] بكلامه بشرًا كثيرًا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة [الذي توفي في العام الذي توفي فيه مقاتل بن سليمان] وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية” كما جاء في كتاب (الرد على الجهمية) هل يحتاج مقاتل المقيم ببلخ مع جهم بن صفوان، أن يصف معالم العراق ومعارفها تلك التي كان يعيش فيها أحمد بن حنبل؟ ليتحدث عن أتباع عمرو وأبي حنيفة الذين ينتشرون في العراق مقام أحمد بن حنبل لا بلخ؟

هل يعني هذا أن أحمد بن حنبل استفاد من كتب مقاتل بن سليمان؟ نعم، فمقاتل من أخبر الناس بجهم بن صفوان، وأسقطه من الإسناد لأنه ترك روايته، والخبر تاريخي، وليس حديثيًا حتى يروي عنه، وقد يقول قائل هل يعني هذا أنه يضعف حديثه ومع ذلك ينقل عنه؟ فيقال نعم، وها هو أحمد يضعّف أبا حنيفة، ومع ذلك قال في المسند: “حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو فُلَانَ [قَالَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَحْمَدَ]: كَذَا قَالَ أَبِي لَمْ يُسَمِّهِ عَلَى عَمْدٍ، وَحَدَّثَنَاهُ غَيْرُهُ فَسَمَّاهُ، يَعْنِي أَبَا حُنَيْفَةَ”، فإذا كان هذا في الحديث، فكيف بواقعة تاريخية، وقد حذف أحمد إسنادها.

يتبع…