الفلسفة انطلقت قديمًا من السماء.

كلمة لكارل ماركس، بأن الفلسفة قديمًا كانت تتحدث عن السماء وعليها الآن أن تنطلق من الأرض، هذه الكلمة الرمزية مفادها تجاوز النقاشات اللاهوتية القديمة، والانطلاق من حاجات ومآسي الإنسان الواقعية، ألحد ماركس، لكن لم ير أن البحث الإلحادي المطلق مفيد، سيكون صبيانية لا زالت مشغولة في السماء هل هناك إله أو لا؟!

صورة أخرى من النقاشات اللاهوتية، لكن الأمر بنظره يجب أن ينطلق من الواقع نفسه، بالحديث عن مآسي الإنسان في عصره، إنسان العصر الرأسمالي، بتحليلها، وإعطاء المسحوقين الأسلحة النظرية التي يتحركون بها، بعبارته، المزاوجة بين سلاح النقد، ونقد السلاح.

قريب من هذا الحل، تحرك العديد من الإسلاميين، بتجاوز النقاشات الكلامية، والانطلاق من الواقع نفسه، بأن يعيش الواحد قضايا أمته، وما يضيرنا بعدها هل القرآن مخلوق أم لا، أو الصفات عين الذات أو زائدة عليها، تلك مباحث تشكل بنظرهم (ترفًا فكريًا) أيام عزة المسلمين، كان عندهم وقت لمثل هذه المباحث، لكن في عصرنا لا مجال لها، ستفرقنا حين نحتاج الاجتماع، أما في السابق فكانت محتملة حيث كان المسلمون متوحدين، بخلاف ما بعد سايكس بيكو.

أتمنى أن أكون صورت هذه الأطروحة كما هي، مع التركيز على أنهم لم يلحدوا كماركس كنقطة أولية، بل انطلقوا من الإيمان كمسلمات يجري التعامل مع افتراضها موجودة في كل المسلمين، إنما العمل على تثوير الحمية الدينية للعمل على تغيير الواقع، وإعادة الأمجاد المنهوبة.

هذا الطرح الذي يمكن أن يصل لأي مسلم عامي على أنه مفهوم، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، ولا التسطيح في اعتبار الخلافات الكلامية مجرد ترف نظري، لكن في المقابل وجد من توقف عند حرفية تلك الخلافات، وبحق حرص على إعادة الناس إلى العصور القديمة، حتى يكاد كلامهم ينحصر بالمقررات المحفوظة، وتقسيماتهم لم تتجاوز العالم القديم، من فرق ومقالات، دون استيعاب أي مستجدات.

على الصعيدين كان الخاسر الأكبر هو الصعيد النظري، ولعب دور العداء للفلسفة عمومًا في الشقين دوره، فما فائدة أن تحفظ مقررات قديمة دون بيان أهميتها العملية واتساقها مع حلول معاصرة وفق مشاكل العصر؟ وما فائدة تجاوزها دون وجود إطار نظري جديد تتحرك من خلاله، يصبح الأمر كمجموعة عمي، لا يقدرون على التفسير لواقعهم ولا مواقفهم، ولا القدرة على توريث منهج واضح للأجيال القادمة سوى سرديات المظلومية، والأبطال الذين سقطوا ثابتين على الطريق.

نحن بحاجة لإطار نظري (لا ينفصل) عن الموروث، ولا يبقى حبيسًا لحرفية مقرراته، ولا يتعامى عن الانحرافات النظرية التي توقع أهلها في عدم اتساق مع الحاجات العملية، لنأخذ للاختصار مثالين:

١- القول بعدم التحسين والتقبيح العقلي: هذا القول قال به الأشعرية قديمًا، ومفاده عجز العقل عن معرفة الظلم والعدل بدون وحي: هذا الموقف يعطل جماهير كاملة عن رؤية ما يحل بها من مظالم ما لم تستمع قولًا لمفتٍ يقرر أن ما وقع ظلم، ومتى ما قال هو العدل بعينه، سينبري طوائف للإزراء بالمخالفين كونهم يعتبرون أنفسهم علماء ويناطحون الجبل الأشم العالم فلانًا.

ولا يقل عنه خطورة في الشأن السياسي التشكك في قدرة البشر ممن ليسوا على دينك على رؤية المظالم على أنها مشتركة، وما يفتحه هذا من تحالفات لدرئه عن جميع المتضررين به، ستكون الأولوية لإقناع المتضرر بدينك قبل أي تحالف، الأمر شبيه بنقاش حول الإسلام وسط قافلة تتعرض للسطو وقطع الطريق، لتشككَ بأن غير المسلم في القافلة لا يمكنه معرفة قبح صنيع قطاع الطرق، وحسن التعاون معك لدفعه.

٢- نفي وجود طبيعة في الأشياء نفسها مؤثرة: وهو القول الذي قال به الأشعرية واختلفوا هل القائل به يفسق أم يكفر، ورجح المتأخرون الفسق: هذا القول لا يستهان به في تعطيل أي قدرة نقدية في كافة الفروع وأخصها الاقتصاد، حيث يضحي مثلًا: الغلاء والرخص بدون أسباب مؤثرة فيهما، إنما الأمر إلهي مباشرة، فتحال القضايا الاقتصادية إلى مباحث إلهية حينها.

قد يقال لكن قد يعتقد المرء بهاتين المسألتين دون الوقوع في هذه اللوازم، يقال صحيح، لكن هذا هو المقصود بعدم الاتساق بين النظري والحاجة العملية، بمعنى إن السلوك العملي سيفقد المسوغات النظرية له لأبعد حد.

وبحل مثل هذه المسائل تنطلق الفلسفة من الأرض ولا تعتبر البحث في السماء مشكلة، لتبقى حبيسة لها، أو تتجاوزها بجرة قلم، والحديث يطول فأكتفي بهذا القدر.

مودتي.