كتاب المنة شرح اعتقاد أهل السنة/ياسر برهامي (2).

لم يخل الكتاب من تسرع في فهم بعض العبارات الصوفية، وحملها على أشنع الوجوه، مثال ذلك قوله: “يقولون في جميع أوراد الطائفة الشاذلية بتفرعاتها المختلقة: (اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة)، فمن سمى التوحيد أوحالًا فهذا وحده كفر، وقولهم في عين بحر الوحدة هذا هو الاتحاد” [1]

هل هذا صريح في الاتحاد، والكفر؟

هذه المسألة تحتاج إلى رويّة، فقد اشتهر بين الصوفية ما يسمى بالفناء عن شهود سوى الله، وللتقريب، أنت لما تكون غائبًا عن إنسان له معزة في قلبك، ثم تلتقي به يغيب عنك الناس حولك، ولا تشهد أحدًا غيره، لا يعني هذا أنه لا يوجد في الكون سواه، بل أنت لا تشهد غيره، هذا للتقريب فحسب، وإلا فهم يقصدون أن تغيب عن كل شيء، حتى عن نفسك وعملك، وقد أجاد ابن القيم في (مدارج السالكين) في بيان عبارات القوم حتى لا يقع تسرع بمثل هذا، والشاذلية تنتسب إلى الشاذلي الذي رد عليه ابن تيمية ونقده، وكان واعيًا لهذه المسألة، فحلل عبارات الشاذلي، ونظر في الاحتمالات المختلفة، وتكلم عن مسألة الفناء هذه، فقال:

“الفناء عن شهود السوى، ويسمى الاصطلام، ومنه الفناء في توحيد الربوبية، وهو أن يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وهذه الحال ليست واجبة ولا مستحبة، وليست حال الأنبياء، ولا السابقين، لكن هو حال يعرض لطائفة من السالكين” [2]، ورغم معارضته لهذا المسلك، إلا أنه لم يجعله حلولًا، أو مثله، بل يجعله منقوصًا، فيقول فيه: “هذا من عوارض الطريق، ليس بواجب ولا مستحب، ولكن قد يعرض لبعض السالكين لضعفه، فيعذر فيه ولا يحمد عليه” [3]، ولذا يسميه بالناقص، بخلاف الحلول والاتحاد فهو إلحاد [4].

وفي رده على الشاذلي يقول ابن تيمية: “نحن لا نحمل كلام رجل على ما لا يسوغ إذا وجدنا له مساغًا” [5]، ولذا قال: “قد يقال: هذا الشيخ لم يقصد بكلامه الحلول والاتحاد، لا مطلقًا ولا معينًا، وإنما تكلم في المقام الذي يسمونه: مقام الفناء والاصطلام، وهو أن يغيب السالك بمعروفه عن معرفته” [6].

وكذلك يقال في هذا الورد، الذي يحتمل أنه قصد أوحال التوحيد، فعل العبد نفسه بأنه وحّد الله، فيفنون عن هذا، ويعتبرون شهوده أوحالًا ومعوقات للطريق، هذا الفناء عن شهود توحيده، لشهود وحدة الله عز وجل، فعلى هذا لا اتحاد ولا حلول، وهو الأغلب على مقصدهم، وكيفما كان فمثل هذه العبارات لا يقال إنها كفر هكذا، حتى يفصل: إن قصدوا وحدة الوجود بين الخالق والمخلوق فهو كفر، وإلا فقد يكون قصدهم الفناء عن شهود توحيدهم هم، لشهود وحدة الله عز وجل، وهذا ليس كفرًا، وهو الأغلب والأقرب، وحمل للكلام على ما يكون له مساغ، وما لا تكفير فيه، خير من حمله رأسًا على التكفير.


[1] المنة شرح اعتقاد أهل السنة، ياسر برهامي، دار الخلفاء الراشدين، الإسكندرية، الطبعة الثانية: 1431هـ-2010م، ص34. [2] الرد على الشاذلي في حزبيه، وما صنفه في آداب الطريق، أحمد بن تيمية، تحقيق: علي عمران، دار عالم الفوائد، ص102. [3] المصدر نفسه، ص101. [4] انظر: المصدر نفسه، ص101. [5] المصدر نفسه، ص190. [6] المصدر نفسه، ص191.