بين الرازي وإبيقور

النزعة المثالية في النظر إلى الوجود كانت تزداد باطراد بين المتكلمين الإسلاميين، وما أن نصل إلى الفخر الرازي ٦٠٥ هـ حتى نجده يتجاوز قول قدماء المتكلمين لينصر أن الكواكب كائنات حية، عاقلة، لها إرادة.

وفي (المطالب العالية) كتب يقول:

“الفصل الأول في إقامة الدلالة على أن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة”، “الفلاسفة : … أطبقوا على أن الكواكب أحياء عاقلة، وأما أهل الكلام فبالغوا في إنكاره، والذي يدل على أن الأفلاك والكواكب أحياء عاقلة وجوه بعضها برهانية” [١]

وبهذا سهل عليه ما فرّعه من تأثير الكواكب على البشر، وأن من وفق إلى ما يحمد كان هذا راجعًا إلى كوكب سعده، وإلا فلكوكب نحس، وصنف كتابًا مستقلًا بعنوان (سر المكتوم في أسرار النجوم) مفاده تقديم بعض القرابين للكواكب والأفلاك لتحقيق المراد، وليس هذا الكتاب مما تراجع عنه بل مضمونه موجود في (المطالب العالية) وهو من آخر ما كتب، بل مات قبل تمامه.

ولا يعتذر عن هذا بالمسارعة إلى القول بأنه كان تابعًا لمعارف ذلك العصر، لذا نقل إطباق الفلاسفة عليه، بل مرده إلى المثالية، فما زعمه من إطباق الفلاسفة على هذا يُظهر إلى أي درجة كان هذا الوصف يطلق على المثاليين منهم فحسب، وإلا فإن الفيلسوف إبيقور المتوفى عام ٢٧٠ قبل الميلاد كان ذا نزعة مادية، يقول عن الكواكب والأفلاك:

“لا يجب أن نعتقد أن الأجسام السماوية المتكونة من نيران متكتلة تنعم بالسعادة وأنها تتحرك بمقتضى إرادتها الخاصة” [٢]، “لابد أن نتيقن أن أشد اضطراب يمكن أن يحدث للنفس البشرية إنما ينتج عن كوننا نظن أن الأجسام السماوية كائنات مغتبطة وخالدة” [٣].

————————————— [١] المطالب العالية، محمد بن عمر الرازي (الملقب بـ : فخر الدين)، تحقيق: أحمد حجازي السقا، دار الكتاب العربي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1407هـ-1987م، ج٧، ص٣٣٥-٣٣٦.

[٢] أبيقور الرسائل والحِكَم، دراسة وترجمة: جلال الدين سعيد، الدار العربية للكتاب، ١٨٨.

[٣] المصدر نفسه، ص١٨٩.