كانط … الإشكال الذي لا زال إلى اليوم/محاولة تقريب.
إمانويل كانط فيلسوف من كبار الفلاسفة الألمان، وواضع واحدة من الإشكالات التي لا زال تأثيرها قويًا حتى اليوم، في عالم المثبتين للإله، وعالم النافين له، أو المتوقفين في شأنه، والمتعلقة بقدرة العقل البشري، على إثباته أو نفيه، والواقع أن كثيرًا منها مستل من الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم، وهي مبثوثة بشكل موزع من قبل في التراث الفلسفي الإسلامي، كابن رشد وابن تيمية وغيرهما.
وبعض الناس يحجبه عن تصور الأفكار الفلسفية وعورة العبارات في التعبير عنها، ولذا سأحاول جعل الأمر في المتناول قدر الطاقة، مع ذكر بعض الأمثلة، حتى يجري تصور الفكرة، وفي الوقت نفسه فهم أنها لا تزال حية، لا أنها اندثرت. لو أنك فتحت يوتيوب، وسمعت واحدًا يقول:
“العلم تقدم، ونسمع عن أطروحات علمية لا تتفق مع معارفنا القديمة، فكيف بعالم غير خاضع لقوانين المادة من الأساس، حتمًا سيكون عقلنا قاصرًا عن فهمه، أو حتى الحكم فيه، لأن العقل ابن هذا العالم، فكيف سيتحدث عن عالم آخر، ليس له خبرة به”.
قد تسارع بقولك صحيح، ولذلك لا يمكن لعقولنا أن تحكم على الله، إنما تتلقى المعرفة منه، كونه فوق قدراتنا العقلية. هذا الذي تقوله الآن، هو تحديدًا ما جعل كانط يقول: لا يمكن للعقل النظري أن يثبت وجود الله! كيف ذلك؟
تخيل أنك الآن تريد الاستدلال على وجود الله، بماذا ستستدل؟ بمعارفك العقلية، التي لا يمكن لك أن تسميها معارف إلا في إطار العالم المادي المحسوس، أنت تقول لكل شيء سبب، لماذا؟ لأن شاهدت مرارًا من العالم ما حكمت به أن لكل شيء سببًا، لكن ماذا لو كان الأمر في عالم لا سبب فيه ولا أسباب ليس ماديًا كعالمك؟ ما الذي يجعلك متأكدًا وقتها أن لكل شيء سببًا؟ على سبيل المثال كان الناس يرون النار تحرق، لكن في غرفة بدون أوكسجين لن يحصل الاحتراق، لا يمكن هنا أن تقول بما أنك تعرف أن النار تحرق، بأنها ستحرق دومًا حتى ولو في غرفة مفرغة من الهواء.
لنتخيل العالم كبالون وأنت داخله، وداخله هواء وأنت تتنفس منه، لا يوجد ما يجعلك متأكدًا أن خارج هذا البالون أكسجين، أو ما يجعلك تتنفس، كونك تعرف أنك تتنفس داخل البالون لا يؤهلك للحكم خارج البالون، قد لا يكون هناك هواء، قدرتك العقلية المجردة لا تسمح لك بهذا.
لكن البعض قد يحاول الفرار من هذا بالقول بأن لكل شيء سببًا موجودة في ذهنك حتى ولو لم تشاهد أي شيء، فيقول كانط هنا: لكن الأمر بقي في ذهنك، هل كل ما تتصوره في ذهنك ينبغي على الشيء الخارجي أن يكون مثله؟ حتمًا لا، أنت يمكنك أن تتخيل سوبرمان، لا يعني هذا أنه موجود في الواقع، لو فكرت في ذهنك أنك تحترق لا يعني هذا أنك احترقت، وبالتالي شرحك لطريقة ذهنك بالتفكير لا تعني وجود شيء يطابقها في الخارج وعلى هذه الحالة أيضًا لا يمكنك أن تستدل على ما هو خارج البالون، بل لا تقدر أن تستدل بهذا على ما هو خارج ذهنك، فهذا شرح في أحسن الأحوال لما في ذهنك أنت فحسب.
قد تسمع من يقول لك عقلنا محصور في الزمان والمكان، والله خارج الزمان والمكان، لذا لا يجوز أن نتحدث عن صفاته بعقولنا القاصرة، هنا يقول كانط: وهذا بالضبط ما أعنيه بالفجوة، بين قدراتك العقلية، وبين ما تتحدث عنه، فقدراتك محصورة في الزمان والمكان، لا يمكن أن تخرج بها خارج الزمان والمكان، فكرة كانط هذه ستؤثر في الفيزيائي ستيفن هوكنج، ليقول:
الزمان والمكان كيف بدأ أمرهما؟ مع العالم، لحظة بداية العالم صار هناك زمان، ومكان، لا يمكن أن تقول ماذا كان قبل العالم! لماذا؟ لأنه كأنك تقول: ماذا كان قبل الزمان، وكلمة (قبل) ظرف زمان، فكأنك تقول ماذا كانت اللغة قبل اللغات!
فالسؤال غلط كونه يفترض لغة قبل نشوء اللغة، ومن هنا سيقول: لا يمكن أن تقول الله قبل العالم لأنك تتحدث بلغة بعد نشوء العالم، بلغة حبيسة في العالم، وتريد أن تتحدث بها خارج جدرانها، خارج البالون الذي هي فيه، هذا يسمى إسقاطًا، أي تستعمل ما تعرفه وتسقطه على ما تجهله لتصوّر بأنك تعرفه، مثلًا تعرف رجلًا اسمه سعد وهو شخص أسود البشرة، فقابلك سعد آخر أبيض اللون، فتسقط معرفتك السابقة عليه، فتقول له: ماذا جرى بك؟ لماذا تغير لونك! وهو شخص آخر مختلف عما تعرفه.