الدين المعاملة

ليس حديثًا، والعديد من الناس يجعله كأنه محكم فيجعل كل الخلافات بين الأديان ثانوية، فجوهر الدين بنظره الأخلاق، وليس أي أخلاق بل أن تحب الناس جميعًا وأن تعمل لهم الخير، وأن لا تكذب أبدًا، ولا تؤذي أحدًا فالأبرار لا يؤذون النمل.

وبدون وعي منه بما يتلفظ به، وبخليط من الأخلاق الصوفية مع فكرة الإحسان المسيحية من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وأحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، ينطلق مرددًا كلام كانط: وجود الله ضرورة أخلاقية.

بهذا التسلسل يجعل من نفسه فقرة في عرض ساخر قدمه مرة إيدي غريفن وهو يصيح مضحكًا الجمهور: لا أحتاج إلى كتاب مقدّس ليقول لي: لا تطلق النار على والدتك، فهذا أمر يعرفه الناس في فطرتهم.

إن اختزال الدين على أنه فكرة أخلاقية كان محوريًا عند كانط، الذي حرص على بيان مقصده من الأخلاق تلك الأخلاق الواجبة عقلًا بنظره كونية وعامة لا تقبل الاستثناءات حتى صرح مرة بأنه لا يجوز الكذب لإنقاذ إنسان بريء حتى لا يخرم اتساقه مع أخلاقه المثالية.

هذا التصور على أقل تقدير لا يتفق مع الإسلام، فكانط كان يقدم تنازلاته العقدية في إطار تسوية هي أقرب إلى العرض السياسي منها إلى الفلسفة: لن يزعم الدين عند كانط أنه يمتلك أدلة عقلية على وجود الله، إنما الدين يقدم نفسه كضرورة أخلاقية فحسب.

وهذا يجر إلى البحث في المقصود من الأخلاق فليس كل ما يفترضه المرء أخلاقيًا هو كذلك بالضرورة، والأخلاق في الإسلام مجرد جزء من الدين والتي لم يزعم الدين أنه استحدثها وأن العقل لا يمكنه معرفتها بالفطرة إنما الدين جاء ليتمم ولم يأت لينقض الفطرة.

لا يمكن اختزال الدين بالمبحث الأخلاقي فحسب، فقد يوجد من هو على غير الدين وهو على خلق قويم في كثير من أعماله، والناس في كل المجتمعات المتدينة وغير المتدينة تنفر من الظلم، وتحب العدل، وتدعو إلى الصدق وتجرم قتل البريء.

فالدين لم يأتِ بدعوة الفضل فحسب (وأن تعفوا اقرب للتقوى) بل بدعوة العدل، فالمماثلة واحدة من الأسس الأخلاقية التي اعتمدها الإسلام (والجروح قصاص) (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، كما لم يأت بالفضل والعدل فحسب بل بالحق والانقياد له.

والحق هو الذي تحشرج عنده الصدور، وترغَم دونه آناف، فقد يكون المرء في معاملته قد صدقت فيه مدائح الناس، لكنه يكابر حقًا فيجحده ساعة الجد، ويتكلف كل طريق لطمسه، وإخفائه والتدليس عند حكايته، والتلعثم عند قراءته.

والحق هو الذي زعم كانط عدم القدرة على معرفته، وغالط فجعل الأخلاق مجال الدين بخلاف الحق، مع أن الأخلاق فرع على القدرة على معرفة الحق واتباعه والانقياد له.