القمع الأعنف يعبّر عن هشاشة أكبر في النظام لا أكثر

عديدة هي المقارنات، بين دولة غربية لا تقمع مسيرة، وبين دولة تحكمها مليشيا وتطلق النار على عجل، وأنصار التفكير الأخلاقي في السياسة يطلقون اسطوانتهم سريعًا: تعلموا من هؤلاء، هؤلاء وهم كفار لكن انظروا كيف تعاملوا مع مسيرة تم استعمال العنف فيها، ولكن الشرطة تعاملت معهم بحس أخلاقي عالٍ، كأن المعيار في شدة عنف الدولة، هو في حسها الأخلاقي، فهو الذي يضبط العناصر عن البطش بالمتظاهرين.

وهذا يغازل خطاب اللاهوتيين المثاليين الذين يؤكدون على أن بث الوعظ الأخلاقي سيغير من نظام حكم فاسد، أو إصلاح قانوني، والذي هو مجرد حبر يرسم موازين القوى السياسية والاجتماعية في الدولة، ويتغير بتغيرها، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا ثوريين في الحقيقة، إنهم بصعوبة مجرد إصلاحيين يحافظون على الوضع القائم وينادون بتحسينه.

الواقع أن أشد الدول رومنتيكية من وجهة نظر اللاهوتي الأخلاقي في التعامل مع المظاهرات المخالفة لها، تضبط تلك المظاهرات بحيث تعلم جيدًا أنها لم تصل إلى حيز تهديد الوضع القائم وترسيم علاقات جديدة بين الدولة والمواطنين، وإلا فنفس الدولة ستقمع بأشد ما يكون كلما كان الأمر متعلقًا بتهديدها، كان لهتلر كلمة عميقة مستوحاة من خبرته كسياسي، ومتأثرة بتحليل نيتشه: الأخلاق جاءت لتحسين الحياة، فمتى تعرضت الحياة للخطر فلا أخلاق، ولا يسارع غر في إنكار هذا من منطلق الشريعة، فالشريعة تفرق بين حالات الضرورة والاختيار، فأخلاقيات الاختيار قد تجعلك تأنف من أكل ضب، ولكنك عند الضرورة قد تلجأ إلى ميتة حفاظًا على وجودك، ورغم ذلك فليس البحث في هذا عما يجب أن يكون بل ما هو كائن وما يكون.

إن المتحكمين بالدولة التي تصفها وسائل الإعلام بأنها مفرطة في العنف، وكأن قليله مقبول، شعروا بتهديد لوجودهم، وبالتالي فعنف القمع واشتداده يتناسب طرديًا مع زخم التهديد على المنظومة الحاكمة باسم الدولة، ولذا تجد في الولايات المتحدة الأمريكية تفاخر بحرية الرأي ما لم تهددها، ولكن لما حصل تهديد أيام السوفييت، خرجت قوانين مكارثي تتبع ميول الناس الفكرية والسياسية، وفي بداية الألفية الثانية تم السماح بالتنصت على المواطنين لدواعٍ تتعلق بالأمن القومي وهكذا، كلما كان التهديد أكبر كان القمع وتدخل الدولة في حياة الأفراد أكبر.

ومن هنا فلا ينبغي المسارعة إلى الحكم بأن الدولة التي لا تقمع مسيرة مثلًا أنها في وضع أخلاقي مختلف عن دولة تقمع المواطنين، فهذا مجرد شعارٍ تالٍ على حقيقة الأمر بأنها في ضمان لاستقرارها وضبط لمؤسساتها أكبر من الدولة القمعية، وليس لأن حسها الأخلاقي أعلى.